الاثنين، 25 يونيو 2012

الفوضى الخلاقة وأدواتها المخابراتية والتدميرية

أولاً : كيف نميز بين الإنتفاضة الوطنية وإنتفاضة الفوضى الخلاقة التي توجهها أمريكا؟
نستطيع التمييز إذا رأينا عدم وجود أي من الأساليب التي ترتكز عليها الفوضى الخلاقة في الإنتفاضة الوطنية، والسؤال ماهي هذه الأساليب التي تتسم بها الفوضى الخلاقة التي تؤكد أن أمريكا من يحرك الثورات الحالية، وهذا ماسنبينه بعد الإجابة عن السؤال التالي والذي يفرض علينا معرفة هل أمريكا تريد هذة الإنتفاضات العدمية والفوضوية أم لا؟

نعم هي تريد ذلك، وما جعل دعوات حقوق الإنسان والديموقراطية وحرية التعبير وحقوق الصحافة أهم بنود إستراتيجية أمريكا الجديدة خصوصا منذ انهيار الشيوعية وزوال الحرب الباردة إلا تعبيرا واضحا عن هذه الحقيقة المعاشة، فبعد أن سحقت القوى الرئيسية في الوطن العربي، إما نتيجة الصراعات بين القوى الوطنية أو بفضل خطط الإستعمار القائمة على تصفية القوى الوطنية الكبرى، وجاء عصر القطب الواحد.
شرعت أمريكا بالإستثمار الأمثل لظاهرة وجود كتل نخبوية وطنية أو عميلة لكنها نخبوية عاجزة عن تحقيق التغيير الحقيقي لأنها بلا قواعد جماهيرية، فتقسمت ولاءات الجماهير بين هذه النخب وغابت القوة المركزية الحزبية عن طريق التفريخ والتقزيم والإحتواء. اللقاء المشترك في اليمن نموذجاً للإحتواء التقزيمي فقد انضمت الأحزاب الكبيرة في تكتل يضم بجانبها أحزاب هشة بدون علمها ربما بأن هذا يساهم في احتوائها، وكدليل فإن السفارة الأمريكية في اليمن عقدت العديد من الإجتماعات مع قيادات المشترك، وذلك كلما رأتهم يسعون للتفكك وكما أن زيارة كلينتون الأخيرة والنادرة منذ عشرين عاما لليمن عقب أحداث تونس، وإجتماعها باللقاء المشترك وحميد الأحمر وتوكل كرمان (ممثلة حقوق الإنسان وحقوق الصحفيات وهي منظمات أمريكية الهدف والمنشأ والتوجه والعمل) بصورة خاصة، أعطى مؤشراً جيداً لسياسة أمريكا في توكيل مهمة الفوضى الخلاقة إلى هذه القوى السياسية، موهمة إياهم بأحلام وردية. منت بها من قبل نوري المالكي ومقتدى الصدر في العراق والبرادعي وعمرو موسى في مصر وجون قرنق في السودان ووليد جنبلاط وسمير جعجع في لبنان وأسامة بن لادن في أفغانستان. كما يؤكد هذا أنهم (اللقاء المشترك) لا يمتلكون فعلا إستراتيجية واضحة ومتفق عليها عدى إسقاط النظام الحالي فقط، والتصريح الذي خرج بها الرئيس الدوري لـلمشترك (المتوكل) داعياً المجتمع اليمني إلى الفوضى الخلاقة وذلك في مقابلة له في قناة سهيل المعارضة، عقب زيارة كلينتون بفترة بسيطة يؤكد وجود الخيط الأمريكي الواضح مهما تلون شكله أو خف وزنه في الساحة اليمنية، حقيقة الدعم التقزيمي الإحتوائي للأحزاب نتج عنه عدم اقتناع الجمهور بأن هذا التكتل يخدمها ولا يعبر عن تطلعاتها كون كل منها يملك أيديولوجية وأفكار بعيدة عن الآخر بغض النظر عن دعمه لها في الإنتفاضة الموهومة بالأفضل، وبذلك الإستثمار الأمريكي لظاهرة قيام كتل نخبوية فإنه يصبح ممكنا تحقيق تراكم متعاقب للغضب والرفض المصحوب بعجز تلك النخب الحزبية المتكتلة، عن التخطيط ووضع الأفق الإستراتيجي للإنتفاضة بدلاً من جرها للمجهول، ويجعلها أيضاً عاجزة عن التراجع وإتخاذ قرار سليم كون كلا منها متناقض عن الآخر ولديه أستاذه وشيخه وفوقهم السفارة الأمريكية شيخ الحارة كلها.

ثانياً: أساليب الفوضى الخلاقة ومقارنتها في الثورات الوطنية الحقيقية.إن فهم آليات وأساليب الفوضى الخلاقة أمر مهم جدا الآن كي نميز بين الإنتفاضة الوطنية والفوضى الخلاقة التي تفجرها وتوجهها أمريكا فإذا رأينا تلك السمات الجوهرية للفوضى الخلاقة موجودة في الإنتفاضات الحالية وعرفنا كم أن حجمها كبير فإنه بالتأكيد يؤكد أن أمريكا من يقف وراء هذه الثورات، وفيما يلي أهم السمات الجوهرية للفوضى الخلاقة.
السمة الأولى : عدمية الإنتفاضة.
السمة الثانية : المخابرات في الفوضى الخلاقة كيف تكون (الطابور السادس).
السمة الثالثة : الحرب الإعلامية والنفسية لفرض اليأس والرفض العدمي .
- السمة الأولى: عدمية الإنتفاضة:إن غياب أو انعدام الأفق الإستراتيجي لدى قادة الإنتفاضة وتركز الوضوح لديهم على هدف إسقاط النظام فقط يؤدي إلى طريق مسدود يتمثل في أنها أسقطت النظام لكنها لم تستطع فرض بديل ربما تعرفه نسبياً أو لا تملك القدرة على فرضه إذا كانت تعرفه بوضوح، فتستغل ذلك الفشل مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية لإقامة نظام بديل تحدد هي هويته ورجاله وليس الثوار. إن النجاح في تحقيق الإنتفاضة وإسقاط النظام والعجز عن تصور البديل له لأي سبب كان يشكل أحد أشكال السذاجة ونقص الخبرة، أو أحد مظاهر العدمية الثورية في حالة إمتلاك قيادة الإنتفاضة ثقافة عالية لكنها عدمية، أي تريد تغيير الوضع القائم لكنها لا تعرف البديل ولا تفكر بالبديل، وبما توفر القوى التي يمكن أن تنجح في إسقاط نظام رجعي وتابع وتستطيع إقامة البديل المناقض له جذريا لأن هذا هو الشرط المسبق الذي يضمن منع تحولها إلى أداة بيد أعداء الوطن ولكن عمل أجهزة المخابرات المحلية والأجنبية عمل منذ عقود على تدمير القوى الوطنية المركزية وتفتيتها ودعم وتشجيع قيام كتل صغيرة ونخبوية أو أحزاب الشخص الواحد، وطنية أو عميلة، لأن الكتل الصغيرة وحتى لو كانت وطنية مضطرة بحكم آليات الديموقراطية أن تخضع لرأي الأغلبية التي تتشكل من عدة كتل متناقضة الأهداف والتوجهات الأيديولوجية فيوصلها ذلك إلى الفشل في فرض البديل المطلوب وتضطر لقبول رأي الأغلبية مايعني تفككها وتناحرها والمزيد من الإضطرابات التي كان يظن الجمهور أنها ولت واختفت.
كما أن وجود شباب منتفض بلا خبرة نضالية عميقة ويفتقرون لإمكانات الإمساك بالسلطة يطرح أمامهم خيارات كلها مرة تقودهم رغما عنهم إلى تفكير مضطرب هو أقرب للعدمية والفوضوية، وهذا ما تريده الجهة التي تخطط لنشر الفوضى.
ويلعب دورا رئيسا في منع الثورات الحقيقية عدم سماح الأنظمة الفاسدة والمستبدة والتابعة ببقاء حزب ثوري رئيس أو مركزي أو أحزاب مركزية لها القدرة على السيطرة على الجماهير وتملك أفقا إستراتيجيا واضحا يشكل خارطة طريق. وهذا ما تحقق في العقود الماضية بصورة تكاد أن تكون تامة حيث شرذمت أو دمرت أو احتوت أغلب القوى الكبرى المجربة تمهيدا متعمدا لخلق حالة إنعدام أو ضعف الضابط الوطني المسيطر والمقتدر، ومن جهة أخرى فإن من لم يدمر أو يفتت من القوى الوطنية الكبيرة والعريقة نضاليا بأعمال داخلية وتقليدية، وبقي قويا ومؤثراَ جماهيريا أسقط بعمل خارجي عن طريق الإحتلال ونشر الفوضى الخلاقة في وقت واحد، كما حصل في العراق ويحصل في ليبيا الآن وكما سيحصل في اليمن كما هو متوقع لدى الصحف الأمريكية.
إن عدمية الإنتفاضة المتجسدة في غياب مشروع وطني إستراتيجي والإعتماد على هدف إسقاط النظام فقط يشكل أهم الشروط المسبقه التي تعتمد عليها خطط الأعداء لمنع تحول هذة الإنتفاضات إلى ثورة وطنية، بحيث تضمن القوى الماسونية الصهيونية استخدام الإنتفاضات كأداة سميت الفوضى الخلاقة لتفتيت الدولة والمجتمع ونشر الفوضى واستباحة البلد وسياسته ورجاله وأحزابه.
وعلينا أن نتذكر بديهية نفسية وهي أنه حينما تصل عملية قهر الشعب واستغلاله حد إذلاله وسلبه الشروط الإنسانية للعيش الكريم فإنه يصبح خاضعا لمحرضات إنتفاضة عفوية وعدمية (أي لاتملك البديل والأفق الثوري) تتمحور حول تحقيق هدف أو أهداف مباشرة وينسى الأهداف الكبرى الوطنية والقومية، ولهذا لابد من الشك بأن إفقار الناس واضطهادهم يقترن بتوقع تفريغ شحنة رفض حاد وغضب عميق بصورة انتفاضة عفوية تتحرك بالعواطف فقط وتفتقر للتفكير العقلاني والإستراتيجي، ولذلك تصبح عدمية الطبيعة لأنها لا تعرف هدفا بعيدا أو بديلا لما ترفضه، وهنا تكمن الثغرة القاتلة في الإنتفاضة العفوية. وهذا ما نراه الآن في تونس بكامل آثاره وفي مصر بأغلب آثاره.
حينما تندفع الجماهير بعد 30 عاما من الكبت والقمع والفقر والإستغلال والفساد والديكتاتورية من أجل تغيير الوضع وتقدم مئات الشهداء وآلاف الجرحى وتخسر الدولة المليارات لكن النتيجة تكون قيام نظام لا يعبر عن تطلعاتها ولا ينسجم مع تضيحاتها وتحملها لعقود لأنه عبارة عن تغيير للوجوه أو بعض أساليب العمل، فما يحدث؟ إحباط شديد وعزوف الشباب وغير الشباب عن ممارسة السياسة بعد أن أفرغت شحنات الغضب والرفض بصورة ممتازة ولم تعد هناك شحنات قوية تكفي لدفع الشباب للقيام بإنتفاضة ثانية. هنا نصل للسؤال الأكثر أهمية وهو: لمن يخدم ذلك العزوف والإحباط وإفراغ الشحنات؟
إن الجواب يتطلب توضيحا لقضية حساسة وهي دور الفيس بوك في تنمية الروح العدمية والتمرد العدمي المجرد من أي أفق إستراتيجي فهو هنا يخدم تنمية روح شبابية متمردة على كل ماوقف في وجهها حتى لو كان عالم ديني أو مفكر حزبي وهذه هي الليبرالية الأمريكية التي تزرع فكرة التحرر من كل شيء يقف أمام رغبات الشخص. وهذه هي خطورة الثورات العفوية العدمية المفتقرة للثقافة العالية، فهل يستطيع شباب الفيس بوك تجاوز هذه الخطورة على أرواحهم وثقافتم الثورية ويستطيعون المواصلة على أعوام مستمرة؟ الجواب هو: من يعتقد أن شباب الفيس بوك يستطيع تجاوز الإنتفاضة العفوية والعدمية وأهم لأنهم تربوا على الحرية الغير معقولة أي تفتقد للعقل والحكمة ولأنهم يرفضون قادة الاحزاب المعارضة بشكل عام ولا يثقون بهم كثيرا ويرون أنهم قصروا في واجباتهم، ولكن وبنفس الوقت ليس لديهم قادة بخبرات وإمكانيات تشكيل قيادة منهم تحل محل النظام البديل، فماذا يحدث؟ يضطرون لقبول أحد خيارين: حكومة مساومات أو حكومة وطنية ضعيفة هي ثمرة اتفاق النخب الوطنية التي ليس من بينها حزب جماهيري. ما هي النتيجة؟ في الخيار الأول تمتص نقمة الجماهير ويعود النظام من الشباك بعد أن طرد من الباب وتكون النتيجة الطبيعية يأس جماهيري خصوصا يأس الشباب، أما في الخيار الثاني فإن ضعف الحكومة الوطنية وتشتت تياراتها واختلافاتها وعدم إسنادها من قبل تنظيم جماهيري فعال وموحد يؤدي إلى سحق الوحدة بين هذه القوى نتيجة الصراعات على السلطة أي نتيجة العجز عن القيام بخطوات فعالة ومؤثرة، مرة أخرى ستكون النتيجة هو اليأس الجماهيري والشبابي. ومرة أخرى أيضا لمن يخدم ذلك؟
حينما قيل إن الثورة يصنعها الثوار ويستولي عليها الإنتهازيون فلإنها لم تكن ثورة بل إنتفاضة عفوية أو عدمية، تتحكم في قادتها طبيعة رافضة بقوة ومقاتلة بشراسة لكنها تفتقر للأفق الثوري الذي لا يتوفر إلا بقيامه على إستراتيجية واضحة مرسومة بعد دراسة معمقة ناهيك عن أن من يطبق هذه الإستراتيجية يجب أن يكون منظم ولديه قاعدة شعبية كبيرة قادرة على ضبط الوضع وتوفير الإستقرار بوجود أغلبية منظمة موحدة تضع الجميع أمام أمر واقع لا يمكن تجاوزه فتقبل بالتعاون معه وعدم اللجوء للإنشقاقات التشرذمية، وبالتالي فإنه يخدم إما الإنتهازيون أو يخدم الأضرار الآنية والحالية وهي جر الإنتفاضة لمسلك وعر مليء بالعوائق مايعني ضياعها وتدمير شباب الثورة نفسياً ومعنوياً والوصول للتدمير الأخلاقي لا سمح الله لأنها حالة نفسية مدروسة إعتمدت على شباب لايملك النفس الطويل في المهاترات والمماحكات السياسية الطويلة والمملة وقد يؤكد هذا أنه تم دراسة الشباب عن طريق الأنترنت.
ولدينا مثال واضح على دور المخابرات الأمريكية والأوروبية في تطبيق الفوضى الخلاقة حيث قامت دراستها على دعم بعض التيارات المناوئة لأمريكا، ومنها إبراز ودعم أفكار مفكر أمريكي إسمه هربرت ماركوزة -أو ماركوز- والذي أصبح بديلا عن ماركس وآنجلز بالنسبة لليسار الأوروبي والأمريكي الشمالي مفجر ربيع عام 1968 وهو انتفاضات شبابية إجتاحت أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية شارك فيها الملايين ورفعت شعارات رفض الرأسمالية والإمبريالية بقوة واستقطبت كل الغاضبين والرافضين في العالم الغربي واستمرت فترات طويلة، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كانت أفكار ماركوزة مزيج من الماركسية والعدمية والوجودية والعفوية الثورية ولذلك كانت أفكارا فضفاضة تسمح بكل شيء لكنها لا تفضي إلا إلى تنفيس الروح الثورية وامتصاص النقمة الشعبية ومن ثم إدخال الإنتفاضة في قناة ضيقة وهي قناة الفردية والتحلل الجنسي والعزلة والفردية والإغتراب واليأس في نهاية المطاف... وهذا يفضي إلى تفكيك الروابط الدينية والإجتماعية ويصبح المجتمع معها مدمراً نفسياً وأخلاقياً، وهذا ما حصل للمجتمعات المسيحية في أوروبا.
فضاع جيل كامل وتبددت فرصة إسقاط النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وتحول الشباب إلى عدميين بصورة تامة لا تهمهم السياسة وانغمسوا في إباحية جنسية شكلت نقلة نوعية في إضعاف ما كان يسمى الأفكار والمجتمعات التقليدية. بالرغم من أنها كانت حركة لمثقفين ومفكرين وليس لأنصاف مثقفين كما هو حاصل في واقعنا العربي الراهن.
في ضوء ما تقدم فإن تجارب العالم تقدم لنا دروسا لابد من قراءتها والإستفادة منها في تجنب وصول العمل النضالي العربي، خصوصا الإنتفاضات الحالية، إلى نفس الحالة التي وصلت إليها إنتفاضات الشباب الأوروبي والأمريكي في الستينيات من القرن الماضي لأن الطبيعة البشرية واحدة مهما اختلفت البيئة في التفاصيل العامة. لذلك لابد من الإعتراف بشجاعة بأن القيمة الإستراتيجية لأي إنتفاضة تكمن في وجود أفق إستراتيجي لها طويل المدى من جهة وامتلاكها تنظيم جماهيري مركزي وقوي وموحد سياسيا وأيديولوجيا من جهة ثانية، وبدون ذلك ستكون نتيجة تضحيات الشباب وعرقهم هي احتواء الإنتفاضة وزجها في نفق مظلم يدفع الشباب والجماهير لليأس والإنسحاب من ساحة النضال الوطني والقومي والإجتماعي وبهذا نصل للجواب لمن يخدم هذا فهو يخدم جر الإنتفاضة لطريق مظلم ويخدم تنمية الروح العدمية لشباب الفيس بوك والأنترنت بشكل عام الذي تشرئب البرغماتية (الوسيلة تبرر الغاية) والليبرالية (التحرر من ما يعيق حريتي كان أن يكون حتى الدين والأحكام العامة) وهو بذلك تدمير لسلوكيات المجتمع كما وضحته تجربة ماركوزة. وبالتالي فإن كل ماذكر عن عدمية الإنتفاضة هو يخدم قتل الروح الوطنية لدى المجتمع العربي بما لا يعيق كل مخططات الصهيونية لتقسيم الشرق الأوسط بالخارطة الجديدة الموصوفة بخارطة الشرق الأوسط الكبير لأن هذا هو من أهداف الفوضى الخلاقة وهي جعل الشعب يدمر نفسه لتقوم أمريكا ببنائه كيفما أرادت.

السمة الثانية: المخابرات في الفوضى الخلاقة كيف تكون وماهي أداة تنسيق الإنتفاضة فيها.
الطابور السادس (جاس-نت): حقيقة لم أجد أي تعريف لمخابرات الفوضى الخلاقة إلا بالطابور السادس جاس-نت أو جاسوس الإنترنت، وهو يختلف عن الخامس في أن الخامس مأجور يعمل في المراقبة وإرسال الوثائق والحقائق لصالح الجهة التي يعمل لها فيما هذا الطابور يقوم بإرسال معلوماته ووثائقة وحقائقة وخططة وبرامجه ذاتياً لكل من يراقبه، وتلك هي الخطورة في مخابرات الفوضى الخلاقة، فالطابور السادس هو الإنترنت ومستخدميه. فكيف يحصل ذلك؟ والجواب ستبينه لنا معرفة هذه الأشياء التي لا يعلمها عامة المستخدمين. حينما تم تبنى خطة الفوضى الخلاقة، في إطار إستراتيجية جديدة تعتمد على ما سمي ب (القوة الناعمة) كبديل فعال لفشل إستراتيجية (العصى الغليظة) القائمة على الغزوات العسكرية وكلفتها المادية والبشرية المدمرة لبنية المجتمع والنظام الرأسمالي الأمريكي، كما رأيناها في العراق وأفغانستان، ومن ثم الفشل الأعظم في السيطرة على العالم بالقوة العسكرية ودعم الإعلام المتشبع بالليبرالية إنتقلت أمريكا إلى إستثمار ما زرعته منذ إطلاق الإنترنيت، ونما ونضج واكتمل، وهو وجود قسم من الجيل الجديد من الشباب العرب المتأثر ب (نمط الحياة الأمريكية) وبشكل خاص زرع رفض كل ما هو قائم ليس في السياسة فقط، كالفساد والديكتاتورية وفقدان الإرادة الوطنية والسيادة... الخ، بل أيضا رفض ما في المجتمع من قيم وأنماط سلوك وتقاليد وقيم، وهكذا تولد رفض لكل ما في البلد، ممتزجا بيأس من التغيير وعدم ثقة عميقة بالأحزاب السياسية كافة. وبالمناسبة أحب أن أسألك عزيزي المناضل العربي سؤال بسيط وهو لماذا طلبت أمريكا من مصر فتح الإنترنت بعد أن أغلقته الحكومة المصرية؟ تعال لننظر في حقيقة مايدور خلف الستار من حقائق ذلك الطلب الأمريكي والحكم لك في الأخر.
– ثقافة الفيس بوك: هنا ندخل في صلب موضوع أداة تنسيق الإنتفاضة والتي شكلت في آن واحد وسيلة إطلاقها وعنصر تسهيل احتواءها وهو هيمنة ثقافة الفيس بوك على الإنتفاضة وأبطالها، لذلك فالفيس بوك والإنترنت كان إغلاقه يعد بمثابة إنهاء أداة تنسيق الإنتفاضة المصرية المرتبطة بالإنترنت وليس بالقيادة الشعبية الواضحة، لذلك كان التدخل الأمريكي واضحاً في إعادة الإنترنت مايعني إعادة الأداة إلى عملها لأنها لو توقفت لتوقفت الإنتفاضة نسبياً أو خف عملها في حشد الناس وتوجيههم، حقيقة نحن لم نفاجأ بحيرة أناس وطنيين يعرفون كيفية تسخير الفيس بوك وأمثاله من شبكات الإنترنيت كتويتر أو البالتوك والياهو... الخ في خدمة العمل المخابراتي لأكثر من دولة في مقدمتها أمريكا والكيان الصهيوني، فهم (الوطنيين) يدركون بعمق أو بصورة سطحية أن الإنترنيت ليس آمنا ومع ذلك أفرطوا في استخدامه بلا إحتياطات أمنية مطلوبة من خلال خداع أنفسهم بأنه أفضل الوسائل غير الآمنة. وبناء عليه قاموا بعد انتفاضتي تونس ومصر وتأثرا عاطفيا بهما، بترويج مصطلحات خطيرة وموحية بشدة مثل (ثورة الفيس بوك) أو (إنتفاضة الفيس بوك) أو (شباب الفيس بوك) وعدم تفسير مغزاها ونتائج تبنيها وحلولها محل مصطلحاتنا الوطنية والقومية، ووصل الإعجاب بتلك الوسائل حد تصوير الفيس بوك كأنها هي (المهدي المنتظر)! وهذه الحالة مؤسفة وخطيرة لأنها توضح مخاطر عدم وعي خطر النار رغم أنها وضعت في أكثر جيوب الإنسان إلتهابا وهو العقل الإنساني فسهل غسله وزرعه بمفاهيم معادية لأمتنا.
إن تأسيس الإنترنيت بشكل عام والفيس بوك وتويتر بشكل خاص لم يكن هدية مجانية ولا ثورة إتصالات ومعلومات عفوية بل كانت عملا مدبرا وله أهداف إستراتيجية خطيرة جدا ونحن لا ندرك هذه الحقيقة إلا إذا تذكرنا أو عرفنا بأن أهم عمل لأي جهاز مخابرات هو جمع المعلومات العامة والخاصة عن أكبر عدد من الناس في البلدان المستهدفة من أجل معرفة النشطاء أو الذين يمكن استخدامهم بعد معرفة معلومات تفصيلية عنهم، والأهم هو تحديد العناصر النشطة أو تلك المرشحة بحكم ذكاءها وتفوقها لإستلام مناصب مهمة في المستقبل، والإنترنيت والفيس بوك وتويتر وغيره يقوم بذلك الواجب أحسن قيام.
لقد أصبح الإنترنيت وخدماته أخطر جهاز مخابرات في التاريخ الإنساني كله لأنه امتلك ملفات لمئات الملايين من البشر وربما مليارات البشر مملوءة بمعلومات ثمينة عن كل من دخل الإنترنيت تشمل كل شيء عنه، يضاف إلى ذلك معرفة الأحزاب والكتل والجيوش والشركات والمصارف... الخ، كل ذلك يقدم مجانا وبرحابة صدر ودون ضغط أو تعذيب أو إكراه! وذلك كنز لا حدود لقيمته الأمنية. إن مجرد تذكر ذلك يدفعنا الى الوصول إلى حقيقة واضحة وهي أن إطلاق الإنترنيت وخدماته لم يكن محض تطور تكنولوجي طبيعي بل كان عملا مخططا وضعت له أهداف كونية إستراتيجية خطيرة جدا أهمها المعرفة الشاملة للجميع أصدقاء وأعداء وأعداء، محتملين وشركات منافسة بعد أن أصبحت حرب المخابرات التقليدية تركز على التجسس الصناعي وحلت محلها المخابرات الإفتراضية.
وتلك الحقيقة تتأكد بقوة إذا تذكرنا أن توقيت إطلاق ثورة المعلومات والإتصالات ينطوي على دلالة مهمة جدا وهو أنه تم بعد انتهاء الحرب الباردة وإنفراد أمريكا بالهيمنة على العالم مع أنها كانت موجودة أثناء الحرب الباردة ولم تطلق وقتها وبقي الإنترنيت جهازا سريا تستخدمه وزراة الدفاع الأمريكية داخليا، لأن إطلاقه أثناء الحرب الباردة كان سيمكّن الإتحاد السوفيتي وغيره من خصوم أمريكا من الإستفادة القصوى منه وجعله طريق بمسارين يخدم كل مسار طرفاً، بالإضافة لتزامن ذلك الإطلاق مع وصول أزمة النظام الرأسمالي البنيوية مستوى خطيرا يشل قدرة أمريكا على السيطرة على العالم عسكريا بعد توفر الظروف المناسبة لذلك وهي ظروف إنهيار الإتحاد السوفيتي وعزلة الصين وغياب المنافس القوي لأمريكا في المرحلة الأولى من إنتهاء الحرب الباردة، فجاء إطلاق الإنترنيت ليكون الوسيلة الرئيسة التي تمهد للسيطرة الأمريكية على العالم دون حروب عسكرية من خلال التأثير على الناس وتغيير قناعاتهم ومعرفة أسرارهم ومكوناتهم وغير ذلك على أساس القاعدة المعروفة وهي (إن معرفة العدو كسب لنصف المعركة)...
بعد اليأس من الأنظمة واعتبارها سرطانا يجب استئصاله، وبعد اليأس من التغيير عن طريق النخب الحزبية الفوقية المجردة من القواعد الشعبية أصبحت الدردشة في الفيس بوك وغيره مثل غرف البالتوك أهم وسائل غسل الدماغ الجماعية للأجيال الجديدة وزرع ثقافة سمتها الأخطر هي أنها ثقافات عدمية (نهلستية) أي أنها ترفض الواقع لكنها عاجزة عن تقديم البديل له، وهذه الثقافة تتناقض مع الثقافة الوطنية والقومية ومع التقاليد الإجتماعية، فحصل اضطراب وتداخل قيميين لدى الكثير من رواد الإنترنيت، وبما أن الإنسان حر بطبيعته ويرفض الظلم والقمع فإنه وجد الطريق الوحيد المتاح للرفض هو الإنترنيت، وهكذا بدأت عملية تعبئة هؤلاء الشباب ليس ضد الأنظمة القمعية والفاسدة والديكتاتورية فقط بل ضد (الأمة الفاشلة والشعب الفاشل والمتخلف)... الخ كما تروج الدعايات الغربية والصهيونية.
ماذ نتوقع من هذه االأجيال؟ الرفض العدمي والعفوي لا غير، وهو رفض إذا أتيحت له فرص الإنطلاق فإنه سيكون قادرا على إحداث القيامة دون القدرة على خلق الجنة، فهي إنتفاضة ترفض الواقع وتشعل النار في نظام يستحق الحرق ولكن دون أن تكون الجنة من بين خياراتها لأنها لا تعرف طريقها، فهي ببساطة تعرف كيف ترفض بناءا على الغريزة الإنسانية التي نبه اإليها الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بقوله: (كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟)، لكن هؤلاء الشباب لا يعرفون كيف يصلون للحرية ولا كيف يحافظون عليها وعلى مكتسباتها، إضافة لإدخال خيارات غريزة حب الحرية في مسار ضيق واحد فقط هو الرفض العدمي المبني على نزعة فردية إكتسبها عبر الإنترنيت وهي عبارة عن تضخيم مرضي لغريزة الحرية، وتلك ظاهرة مرضية أمريكية معروفة تحل رغبات الفرد محل رغبات الجماعة وتغلبها عليها. أما إذا برزت الجماعية في التفكير فهي ثمرة الإضطرار والتي تشبه إضطرار المسافر في قطار برحلة طويلة جدا، بقوة غريزة العيش الجماعي في البشر، إلى التسامر مع الركاب الآخرين وإقامة صلات رفقة طريق مبنية على التوافق المؤقت وبقدر طول الرحلة من أجل تمضية الوقت وإستبعاد الوحشة.
من يظن أن تربية الإنترنيت هذه عفوية وتمت بدون تخطيط مسبق مخطأ لأن من أسس وإطلاق الإنترنيت وصرف المليارات عليه ليس جمعية خيرية بل دولة إمبريالية أرادت السيطرة على العالم من خلال إعادة تشكيل طريقة تفكير الناس خصوصا الشباب خارج أمريكا نفسيا وفكريا قبل السيطرة على العالم، وجيش الإنترنيت الملياري فيه ملايين غسلت أدمغتهم وأصبحوا ضحية التربية الغربية، مع وجود ملايين حافظت على هويتها واستفادت من الإنترنيت في تحقيق تقدم سياسي وأيديولوجي. لكن المقارنة بين هذين التوجهين تفضي إلى إدراك أن الكسب الإستراتيجي الأعظم هو لأمريكا.
هناك اتفاق عام على أن إنتفاضتي تونس ومصر كانتا ثمرة خدمات ما يسمى خطئا ب (المواقع الإجتماعية) كالفيس بوك وتويتر وغيرهما، فالشباب الذي كان ومازال من فجر الإنتفاضة وليس الأحزاب الوطنية والنخبوية والساسة التقليديين وتمكن من تحقيق ذلك فقط عن طريق التخمير الطويل في مواقع وغرف الإنترنيت، فالتعارف والتنسيق والإتفاق على مواقف تم بفضل الإنترنيت، ولم تكن لهم إطارات تنظيمية ثابتة، وكل تلك العمليات في تلك الغرف والمواقع كانت تراقب وتدرس وتحلل من قبل أجهزة إستخبارية تحلل المعلومات، خصوصا الأمريكية والإسرائيلية، من أجل تحديد كيفية الإستفادة منها، خصوصا وأن الحرية المطلقة في التعبير عن الرأي تصل إلى حد تجاوز كل الحدود المنطقية والعقلانية والأخلاقية كرد فعل على القمع ومصادرة الحريات ونهب الثروات والتبعية للإستعمار والصهيونية.
إن الإنتفاضات التي تمت بمساعدة الإنترنيت كأداة تنسيق مثل مصر وتونس وسوريا والسودان أمر حصل ولكن ما ينبغي عدم نسيانه أبدا لتجنب إطلاق الرصاص على رؤوسنا وبأيدينا وهو الآتي: هل أمريكا التي غزت العراق ودمرته وأبادت بين عامي 1991 و2011 أكثر من أربعة ملايين عراقي والتي وقفت بحزم وثبات إلى جانب الكيان الصهيوني ووفرت له أسباب البقاء الأساسية وألحقت بالعرب أكبر كوارث العصر الحديثة يمكن أن تكون محبة للحرية وتحرر العرب؟ إن من يتهرب من هذا السؤال يحكم على نفسه إما بأنه جاهل أو أنه ميت الضمير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق