الأحد، 27 يناير 2013

طبول الحرب بين شمال وجنوب السودان

أدت الاشتباكات المسلحة الأخيرة بين دولتي السودان على منطقة (هجليج) النفطية إلى إعادة فرض الملف السوداني نفسه بقوة على الساحة الإقليمية والدولية. فبعد انفصال الجنوب وإعلان دولة جنوب السودان المستقلة، ومحاولات التعايش بين الدولة الجديدة والدولة الأم، بدأت ألغام ما بعد الانفصال تتفجر من جديد. مرد ذلك أن هذه الألغام لم يتم نزع فتيلها في غمرة التوجه السريع نحو الانفصال، ويمكن القول أن هذه الألغام تركت عن عمد لتكون جاهزة للتفجير في أية لحظة. والواقع أن ثمة تاريخ طويل من النزاع بين شمال السودان وجنوبه، وصل أوجه بإعلان انفصال جنوب السودان في العام الماضي. وجاء الانفصال في وقت لم يكن أي من الطرفين مستعداً له، حيث هناك ترابط وتشابك كبير بين الطرفين، وقضايا حدود ونفط لم يتم حسمها. ومع تأزم الأوضاع الداخلية في البلدين بعد الانفصال ووجود ثورات في بلدان عربية مجاورة وقريبة منهما، ربما سعى الطرفان إلى تصدير أزماتهم الداخلية ـ الشمال يعاني من أوضاع اقتصادية صعبة مع عدم وجود انفتاح سياسي كاف والجنوب استيقظ من حلم الانفصال على شكل دولة دون وجود أي مقومات لها وعلى وعود بمساعدات أجنبية تبخرت وأوضاع اقتصادية ومعيشية مزرية لأبنائه ـ إلى الخارج عن طريق المناوشات ثم حرب جزئية ثم دق طبول حرب شاملة، وذلك بعد احتلال الجنوب لمنطقة هجليج النفطية التي تنتج نحو 30% من نفط الشمال بعد وقوع أكثر من 70% من حقول النفط داخل أراضي دولة الجنوب، وإعلان البرلمان السوداني أن جنوب السودان عدو واستعادة قوات الشمال لها وسط إدانة دولية للاحتلال والدعوة إلى العودة لطاولة المفاوضات. وقد أظهر ذلك حجم المشاكل والخلافات العالقة بين البلدين وقابلية الوضع للتفجر بشكل ينذر بحرب شاملة، ما لم يتم الإسراع إلى بحث حلول حقيقية وحاسمة لعناصر الشقاق والصراع، ووجود وساطات حقيقية تسعى إلى تسوية الخلافات، يجب أن يكون الدور العربي فيها قوي وفعال. صحيح أن القاهرة بادرت بإرسال وزير خارجيتها لحث الأطراف على التهدئة وعرض الوساطة وحذرت من تدويل القضية، لكن يجب أن يكون هناك دعم عربي قوي وواضح لذلك وعدم ترك الأمر للعربدة الدولية، خاصة الإسرائيلية في الجنوب، ثم العويل على ذلك!


جذور النزاع:
* المشاكل الحدودية:
تعد مسألة الحدود بين الدولتين إحدى أهمّ قضايا الجدل بينهما، وهي الممتدّة لنحو 1950 كيلومتراً ما بين خطّيْ عرض 9 و 12 شمالاً، وفيها ثروات نفطيّة ومعدنيّة وحيوانيّة، وحركة بشريّة سكانية تحت مظلّةٍ عرقيّة منقسمة بين عربٍ وزنوج. وطبقاً لاتّفاقية السلام الشامل فقد تمّ اعتماد خطّ حدود الجنوب كما كان وقت الاستقلال في 1 يناير 1956، كما اعتمدت اتّفاقية أديس أبابا الخطّ نفسه في إطار المفاوضات التي عُقدت عام 1972 بين شمال السودان وجنوبه لإنهاء المرحلة الأولى من الحرب الأهليّة السودانية (1955 - 1972). وقد تجسّد هذا الخطّ الحدودي في قانون الحكم الإقليمي الجنوبي الذي اعتمده كخطٍّ للحدود الإدارية، ولكنه تحوّل إلى مشكلةٍ معقّدة مع التوسّع في التنقيب عن النفط في هذه المناطق والتحوّل إلى أنماط الزراعة الآليّة. ونظرًا لأنّ البرلمان السوداني قد قام بتحديد الخطّ الحدودي الجنوبي دون أن يعتمد في ذلك على عمليات مسوح بين الولايات، أو امتلاك ملامح طبوغرافية للخرائط الحديثة نسبيًّا، فقد ترتّب على ذلك العديد من النزاعات مع البدء في عمليّة وضع العلامات الحدودية، وبدَا واضحًا تنامي حجم النزاعات في هذا الشأن على المستوييْن المحلّي والقومي. وثمة سبع مناطق حدودية محل نزاع وهي: 
1- أبيي. 
2- التخوم بين قبيلتيْ دينكا ملوال والرزيقات بين ولاية جنوب دارفور وولاية شمال بحر الغزال. 
3- حقول النّفط في ولايتيْ الوحدة وجنوب كردفان. 
4- مناطق الزراعة الآليّة على امتداد ولايات النيل الأزرق وأعالي النّيل وجنوب كردفان. 
5- منطقة شال الفيل في ولاية النيل الأزرق. 
6- خطّ الحدود الشمالية لولاية أعالي النيل. 
7- منطقة حفرة النحاس وكفياكنجي في ولايتيْ جنوب دارفور وبحر الغزال.

النزاع على أبيي:
شكّلت قضية أبيي بالذات حجر عثرةٍ في اتّفاقية السلام الشامل المبرمة عام 2005 وهدّدت بانهيار المفاوضات، كما قد تكون بوّابةً لحربٍ أهليّة جديدة بين الشمال والجنوب في ضوء التفاعلات الراهنة التي لم تحسم الاتفاق على تبعية منطقة أبيي وما إذا كانت ضمن حدود دولة الشمال أم دولة الجنوب، وذلك على خلفيّة انتقال تبعيّة المنطقة ما بين ولايتيْ كردفان وبحر الغزال في فتراتٍ مختلفة من القرن العشرين. وقد تطلّبت هذه الحالة عقْد بروتوكول خاصّ بأبيي في إطار اتّفاقية نيفاشا انطوى على إجراء استفتاء للسكّان لتحديد مصير المنطقة وضمان نصيبٍ لها من النفط. وكان مقرّرًا إجراءُ هذا الاستفتاء بالتزامن مع استفتاء تقرير مصير الجنوب في يناير 2011، إلاّ أنه لم يتسنّ تنفيذ هذا الاتفاق حتى الآن بسبب الاختلاف حول من يحقّ له تحديد تقرير مصير منطقة أبيي حيث ينكر السكّان من العرق الزنجي (قبائل الدينكا) على المسيرية (السكان العرب) هذا الحقّ انطلاقاً من رؤيتهم حول حدود أبيي وقاطنيها التاريخيين.
وفي هذا السياق، جرت العديد من محاولات ترسيم حدود أبيي من خلال عمليات سياسية وإجرائية أخفقت جميعها، كان من بينها اللجوء عام 2005 إلى لجنة خبراء بشأن ترسيم الحدود لكن الحكومة السودانية رفضتْ قرارات هذه اللّجنة واعتبرت أنّ اللجنة قد تجاوزت الاختصاص الموكول إليها. وكانت الخطوة الثانية اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، والتي اعتمدت في يوليو 2009 على حلٍّ توافقي يقسم أبيي بين الدينكا والمسيرية، ولكن قبيلة المسيرية العربية رفضت ذلك الحكم محتجّة بأنه قد اقتطع نحو 50% من أراضيها ذات المياه والمراعي الكثيفة التي اعتادت العيش فيها منذ عقودٍ طويلة مدّة ثمانية أشهر من كلّ سنة. وتقف القبيلة حالياً بصلابةٍ ضدّ ترسيم تقسيم المنطقة حسب قرار محكمة لاهاي مهدّدة بالحرب.
واستمرّت التفاعلات بين الشّمال والجنوب مأزومة بشأن أبيي إلى حدّ التّصعيد العسكري ووقوع قتلى في اشتباكات واسعة أحيانًا ومحدودة أحيانًا أخرى، على أنّ التطوّر الأهمّ كان في صبيحة 20 مايو الماضي وعلى بعد 7 كيلومترات شمال مدينة أبيي، حيث قام الجيش الشعبي بنصب كمين لقوات الأمم المتحدة وقوات الخرطوم في القوات المشتركة في أبيي وقوامها 200 جندي تقريبا،ً مستخدما أسلحة ثقيلة، فقتل حوالي 25 جندياً وأصيب 10 واعتبر 150 في عداد المفقودين. وتبع هذا إعلان الجيش السوداني منطقة أبيي الحدودية "منطقة حرب". وبالمقابل نفى الجنوبيون تعمدهم الاعتداء على قوات الجيش السوداني ولم يحددوا من اعتدى على الجنود السودانيين أو جنود الأمم المتحدة، وزعموا أن الجيش السوداني "يحضر لاحتلال أبيي ويجهزون قوات من الدفاع الشعبي وأنهم نقلوا قواتهم شمالاً بعد أن أكملوا تحضيراتهم لاحتلال أبيي"!. وجاء ذلك العدوان ليؤكد نوايا الحركة الشعبية تصعيد القتال لزيادة الضغوط الدولية على الخرطوم، وللرد أيضاً على هزيمة مرشح الحركة الشعبية أمام مرشح الخرطوم في انتخابات جنوب كردفان بعدما أعلنت مفوضية الانتخابات السودانية انتخاب أحمد محمد هارون المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، والياً لمنطقة جنوب كردفان بعدما تقدم على مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كانت أعلنت رفضها للنتائج مشككة في مصداقيتها.
وقد نجح هذا الفصل الجديد من فصول الصّراع حول أبيي في ضمان تفاعلٍ دولي في شأن تحريك مطلب إسقاط جزءٍ من الديون السودانية أو كلّها، كما نجح أيضًا في تحويل اتّجاهات الرّأي العام والنّخب السودانية من التطوّرات المتعلقة بالثورات العربية وآمال التحوّل الديمقراطي في السودان إلى تطوّرات أبيي التي هي وثيقة الصّلة بمستقبل السودان. في هذا السياق، تحرّك مجلس الأمن الدولي بناءً على طلبٍ من طرفيْ الحكم في السودان ليصدر قراره رقم 1990 الذي يجيز نشر 4200 جندي أثيوبي إضافةً إلى 50 عنصرًا من الشرطة للفصل بين الجانبين السودانيّين المتنازعين في أبيي ويستمرّ هذا الوجود الأثيوبي بتفويضٍ من مجلس الأمن لفترة ستّة أشهر تم تجديدها مؤخراً.

التعقيدات السياسية في جنوب كردفان والنيل الأزرق:
تشكّل ولايتا جنوب كردفان والنيل الأزرق مناطقَ حيوية على الصعيد الاستراتيجي لكلٍّ من دولتيْ الشمال والجنوب، فهي مناطق التماس بينهما، ويتمركز فيها الجيش الشعبي على خلفية تحالفاتٍ سياسية بيْن الحركة الشعبية ورموز سياسية من هذه المناطق حاربت حكومة الشمال تحت مظلّة الحركة الشعبية منذ عام 1983 استنادًا إلى ما يقولون إنّه قواسم عرقيّة مع جنوب السودان، وهؤلاء هم شعبُ جبال النوبة ومن أبرز رموزه السياسيّين الراحل يوسف كوة والمرشّح المهزوم في انتخابات ولاية جنوب كردفان عبدالعزيز الحلو. وقد رتبت اتّفاقية نيفاشا أوضاع الولايتين طبقًا لصياغاتٍ غامضة نسبيًّا وتفتح أبواباً للتأويل والتفسير حسب طبيعة مصالح الأطراف التي تقوم بهذه العملية. وقد اعتمدت الاتّفاقية مبدأ المشورة الشعبية الذي تمارسه المجالس التشريعية والتي تمّ تأليفها بحلول السّنة الرابعة من الفترة الانتقالية، كما يتمّ إنشاء لجنة مستقلّة تكون من صلاحياتها مخاطبة الحكومة القومية بشأن تقييم تنفيذ اتّفاقية السلام الشامل. وطبقًا لهذه المهام المنصوص عليها، يحتلّ منصب والي الولاية وزنًا مهمًّا في عملية إدارة العلاقة السياسيّة مع المركز أيْ الخرطوم، كما أنه من الممكن أن يلعب أدواراً حيوية لحكومة جنوب السودان في ضوء الصّراع الراهن مع الشّمال. وطبقًا لهذا الواقع جرتْ التفاعلات بشأن انتخابات والي جنوب كردفان التي جرت في مايو 2011، وتأخّر إعلان نتائجها لمدّة يوم، واتّهمت الحركة الشعبيّة خصمها اللّدود المؤتمر الوطني بترتيب عمليّاتٍ واسعة من التزوير بالتعاون مع مفوّضية الانتخابات لصالح مرشّحها أحمد هارون ضدّ مرشّح الحركة الشعبية عبدالعزيز الحلو. 
وقد تزامن الجدل الذي ثار حول العمليّة الانتخابية مع ضرورة تنفيذ الترتيبات الأمنيّة المنصوص عليها في اتّفاقية السّلام في الولايتين بعد أنْ تقرر قيام دولة الجنوب المستقلّة، بما يعني إعادة قوّات الجيش الشّعبي إلى داخل حدود الجنوب أسوةً بما تمّ من جانب القوّات المسلّحة القوميّة التي انسحبتْ من الجنوب. وفي هذا السّياق، تذكر الخرطوم إنّ جوبا قد تحايلتْ على تنفيذ هذا البند باستمرار وجود عناصر الجيش الشعبي في أبيي، كما أنّ العناصر المسلّحة في نطاق هذا الجيش من نوبي الجبال رفضوا تسليم أسلحتهم إلى الحكومة في ولاية جنوب كردفان، كما رفض مالك عقار والي ولاية النيل الأزرق انسحاب الجيش الشعبي من ولايته على الرغم من تبعيّة الولايتين لشمال السودان. 
وكان الموقف الحكومي إزاء هذا الوضع اللجوء للتدخّل العسكري في ولاية جنوب كردفان في مطلع يونيو 2011. وكان من نتائجه أنْ انضمّ منتسبو الجيش الشمالي من عناصر جبال النوبة إلى المتمرّدين على سلطة الشمال. وأعلن عبدالعزيز الحلو، المهزوم في انتخابات كردفان، قيادة تمرّد مسلّح ضدّ الحكومة لإسقاط النظام السياسي في الخرطوم، في تطوّر خطر من شأنه أنْ يعيد السودان إلى مربّع الحرب الأهليّة. وقد نشأ عن هذه الحالة مستويان للصّراع، الأوّل بين الحكومة السودانيّة والحركة الشعبيّة التي يقود حربها بالوكالة عبدالعزيز الحلو ردًّا على هزيمته في الانتخابات؛ أمّا المستوى الثاني فهو ما بين الحركة الشعبيّة ونوبة الجبال في ولاية جنوب كردفان، حيث اعتقلت الحركة مرشّحاً عن هؤلاء في الانتخابات (تلفون كوكو) وهي (الحركة الشعبية) متّهمة من جانبهم بخيانتهم في إطار اتفاقية السلام مع الشمال والتخلّي عنهم بعد أنْ قدّموا عشرات الآلاف من الضّحايا في أتون حربِ الحركة مع الخرطوم طوال ثلاثة عقود. كما قامت الحركة بإعدام بعض عناصر نوبة الجبال في عمليات انتهاكٍ لحقوق الإنسان. ولم يضمن نوبة الجبال في الأخير ثمنًا سياسيًّا لنضالهم في إطار اتّفاقية السلام.
وتقوم احتمالات اندلاع الحرب الأهليّة انطلاقًا من جنوب كردفان هذه المرّة على حالة الانفلات في ما يطلق عليه "المناطق الثلاث المهمّشة" (أبيي وولايتا كردفان والنيل الأزرق)، وهي الحالة الناتجة من تقاطعات المصالح بين طرفيْ الحكم في الشمال والجنوب والانقسامات العرقيّة والقبلية، وتتجلّى هذه المصالح المتقاطعة في عمليّة صراع معقّدة على الموارد الطبيعيّة، وحروب بالوكالة تنشأ نتيجة التفاعل بين العامليْن السابقين، خصوصاً في ضوء الاتّفاق الإطاري الذي تمّ توقيعه بين الحركة الشعبية والحكومة السودانية في أديس أبابا في شأن إدارة العمليّة السياسية في ولايتيْ جنوب كردفان والنيل الأزرق، حيث من المتوقّع أن يُنتج هذا الاتّفاق انقساماً شمالياً في إطار حزب المؤتمر الوطني الحاكم نتيجة لقبول الحزب بتفعيل الحركة الشعبية سياسيًّا في الشمال في ما يُعرف بقطاع الشمال فيها. ومن شأن هذا التطوّر أن يُنتج تأثيرًا مهمًّا في المعادلات السياسية بشمال السودان، في حين يعتبر والي ولاية النيل الأزرق هذا الانقسام بديلاً عن الحرب.

*تداعيات الإنفصال على الاقتصادي السوداني:
كان للانفصال تداعيات خطيرة على اقتصاد الشمال السوداني، الذي لا تبدو حظوظه في الانتعاش كبيرة، لاسيما مع عامل الإنهاك المستمر بسبب الحروب الدائرة منذ الاستقلال في الجنوب، ثم اشتعالها مجدداً في إقليم دارفور غرب السودان. فقد قاد الانفصال إلى تراجع ايرادات الحكومة في الشمال من عائدات النفط (75% منه ينتج في الجنوب)، وإلى حدوث فجوة كبيرة نظراً لكون عائدات النفط كانت تشكل نحو 70% من الايرادات في موازنة الدولة السودانية الشمالية. وبعد الانفصال أصبح الاقتصاد السوداني يواجه تحديات جديدة، فهو يعاني من انخفاض حاد في تدفقات العملات الأجنبية والتي تقدر بـ66%، فضلاً عن الخلل الهيكلي في الاقتصاد السوداني الناتج من الارتباط القوي لقطاع النفط مع القطاعات الاقتصادية الأخرى، إذ إن الانخفاض المتوقع في عائدات النفط سيؤدي إلى انخفاض بنسبة 15% من الناتج المحلي الإجمالي.

*النفط أهم عناصر الصراع:
مكن اكتشاف النفط في السودان من انضمام هذا البلد العربي رسمياً إلى الدول المصدرة للنفط عام 1999، حين صدر أول شحنة من 600 ألف برميل إلى سنغافورة عبر أنبوب يمتد 1600 كيلومتر تحت الأرض من حقول نفط هجليج في الجنوب إلى مرفأ البشاير الذي افتتحه الرئيس السوداني عمر البشير على البحر الأحمر على مسافة 400 كيلومتر شمال شرق الخرطوم. وينتج السودان نفطاً وغازاً منذ سنوات، لكنه لا يزال يعتبر ثروة كامنة غير مستخرجة. فهو ينتج غالباً ما بين 230 ألفاً و 250 ألف برميل من النفط يومياً، وتبلغ احتياطاته المعروفة في منطقة جومي أعالي النيل ما بين 600 مليون و 1.2 مليار برميل، والاحتياطات المقدرة في هذه المنطقة بأكثر من 800 مليون برميل، لكن الثروة الكبرى تقع في حقول كامنة في منطقة سد الجنوبية الخاضعة كلياً لسيطرة الفصائل الجنوبية حيث كمية النفط مقدرة بما بين 3 مليارات و 4 مليارات برميل. 
ويتداخل الصراع على منطقة أبيي بين شمال السودان وجنوبه مع الصراع على الموارد النفطية، إذ أنّ إعلان دولة الجنوب الجديدة يعني فقدان الشمال 70% من احتياطات النفط ويفقد الموازنة الشمالية 45 %من مواردها، بينما سيشكّل النفط 98% من موارد موازنة حكومة جنوب السودان. وفي هذا السياق، شهدت العلاقات البينية بين الشمال والجنوب أزماتٍ متتاليةً طوال الفترة الانتقالية الممتدّة من 2005 إلى 2011، حيث اتّهم الجنوب الشمال بعدم تسليمه كافّة عوائده النفطية وكذلك عدم الشّفافية فيما يتعلّق بحجم الإنتاج الفعلي للنّفط. ويمكن القول إنّ هذه الاتّهامات التي لم تثبتها جهات مستقلّة كانت أحد مدخلات قرار الانفصال من جانب السكّان الجنوبيين، خصوصاً وأنّ عملية اكتشاف النّفط في الجنوب على يد شركة شيفرون الأميركية في نهاية السبعينيات من القرن الماضي كانت من الأسباب الرئيسة لتراجع شمال السودان في عهد الرئيس جعفر نميري عن اتّفاقية أديس أبابا للسلام عام 1972.
وفي الوقت الراهن، تسعى حكومة الخرطوم إلى استمرار الاتّفاق الموقّع بشأن النفط في إطار اتّفاقية السلام، وهو الذي يقضي باقتسام العوائد النفطية استناداً على أنّ مصافي النفط وأنابيبه أيْ البنى الأساسية موجودة في الشمال بينما مناطق إنتاجه في الأراضي الجنوبية. وقد عبّر الرئيس البشير عن هذا الموقف صراحةً في 21 يونيو 2011، كما تمارس الخرطوم على جوبا أنواعاً متعدّدة من الضغوط الاقتصادية لتصل إلى هذا الاتّفاق، ومن بين هذه الضّغوط التباطؤ في إمداد جوبا بالبنزين بما جعل أسعاره تفوق أحيانًا العشرة دولارات للتر الواحد.
وقد استحوذ جنوب السودان على نحو ثلاثة أرباح إنتاج النفط السوداني حينما استقل حيث حصل على 350 ألف برميل يوميا مقارنة مع 115 ألفاً تقريباً للسودان. والمشكلة هي أن جنوب السودان الحبيس مضطر لضخ الخام في خط أنابيب عبر أراضي الشمال إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر لتصديره. وفشل الجانبان في الاتفاق على الرسوم التي يتعين على جوبا دفعها نظير ذلك. ويعتمد البلدان بشدة على النفط الذي شكل نحو 89% من ايرادات جنوب السودان وأكثر من نصف ايرادات السودان قبل الانفصال ولذا توجد ضغوط على البلدين للتوصل لاتفاق مناسب. وما يزيد الأمر تعقيداً أن كل النفط في البلدين تقريباً يأتي من حقول قرب الحدود المتنازع بشأنها. ويحارب متمردون القوات الحكومية على جانبي الحدود وتتهم كل دولة الأخرى بدعم المتمردين في أراضيها. وتفاقم النزاع في يناير الماضي، حينما أوقف الجنوب إنتاج النفط بالكامل احتجاجاً على مصادرة السودان بعضاً من نفطه. ويتهم جنوب السودان الخرطوم "بسرقة" نفطه، بينما يعلن السودان إن من حقه الحصول على نصيب من نفط الجنوب لأن جوبا ترفض دفع رسوم عبور النفط منذ انفصالها مما غذى التضخم وأدى إلى تفاقم نقص العملة الأجنبية في السودان. ويذكر جنوب السودان إن المقاتلات السودانية قصفت رأس بئر نفطية في ولاية الوحدة في فبراير الماضي، إلا أن البئر لم تلحق بها أضرار كبيرة لأنها لم تكن مستخدمة.

ما حجم نفط الجنوب الذي صادرته الخرطوم؟ 
صادر السودان أكثر من ستة ملايين برميل من الخام الجنوبي منذ ديسمبر الماضي وفقاً لأرقام ذكرها فريق المفاوضين الجنوبي في أديس أبابا. ولم يؤكد المسئولون السودانيون ذلك أو ينفوه في تصريحات علنية. ووفقاً للأرقام فإن هذا يشمل 1.2 مليون برميل صودرت في ديسمبر وأربع شحنات تبلغ اجمالاً نحو 2.5 مليون برميل في يناير و 2.4 مليون برميل أخرى في فبراير. وأظهرت الوثائق أن الشحنات الأربع تتضمن 605 ألفاً و 784 برميلاً من مزيج دار حملتها سفينة سي سكاي و 618 ألفاً و 712 برميلاً من مزيج دار حملتها سفينة النوف و 629 ألفاً و 368 برميلاً من مزيج النيل حملتها سفينة راتنا شرادها و 600 ألف و 121 برميلاً من مزيج النيل حملتها الناقلة إي.تي.سي إيزيس. وليس من الواضح إن كانت الكمية المتبقية موجهة للاستهلاك المحلي في السودان أم للتصدير. وأعلنت مصادر تجارية إن شركة تجارة السلع السويسرية ترافيجورا اشترت شحنة واحدة على الأقل من الشحنات الأربع وهي التي كانت تحملها راتنا شرادها. ولم يتضح مصير الشحنات الأخرى لكن شركة فال أويل تدير اثنتين من الناقلات. ويتهم مسئولون جنوبيون الخرطوم أيضاً ببناء وصلة من خط الأنابيب لتحويل 120 ألف برميل يومياً من إنتاج الجنوب إلى مصفاة الخرطوم. ويرد السودان إنه حول بعض النفط إلى مصافيه لكنه يؤكد أن هذا حقه.

ما الرسوم المتنازع بشأنها؟ 
يدور أحد الخلافات المحورية حول مقدار الرسوم التي يتعين على جنوب السودان الحبيس أن يدفعها مقابل نقل النفط بالإضافة إلى تكلفة استخدام خطي الأنابيب ومنشآت المعالجة والمرفأ المطل على البحر الأحمر قرب بورسودان. ويشير جنوب السودان لوثائق لشركات نفطية تظهر أنه يدفع رسوم النقل والمعالجة والمرفأ البحري لشركات النفط مباشرة منذ الانفصال. وتعلن الخرطوم إن هناك حاجة لإعادة التفاوض بشأن الرسوم لأن البنية الأساسية واقعة في أراضيها وإن جنوب السودان ليس طرفاً في اتفاقات إنتاج الخام ونقله التي وقعتها الحكومة السودانية مع الشركات العاملة قبل التقسيم. ويستشهد كل من الجانبين بالأعراف الدولية لدعم موقفه خاصة خط الأنابيب البالغ طوله 900 كيلومتر بين تشاد والكاميرون. وعلى أساس رسوم العبور التي تدفعها تشاد للكاميرون بواقع 45 سنتاً للبرميل فإن جوبا تعرض حالياً دفع 63 إلى 69 سنتاً للبرميل معدلة لطول الخط الشرقي البالغ 1370 كيلومتراً التابع لشركة بترودار والأخر البالغ 1650 كيلومتراً التابع لشركة النيل الكبرى. لكن الخرطوم تحتج بإن الاتفاق بين تشاد والكاميرون جرى توقيعه حينما كان سعر النفط الخام 15 دولاراً للبرميل. وطلب السودان ستة دولارات للبرميل معدلة لسعر يبلغ نحو 110 دولارات لبرميل النفط. ويريد السودان أيضا 18.50 دولار للبرميل لاستخدام خطي الأنابيب (رسوم نقل) و 6.50 دولار للبرميل لاستخدام المرفأ البحري وخمسة دولارات للبرميل لاستخدام منشآت المعالجة ما يجعل الإجمالي المطلوب 36 دولاراً. وكانت آخر العروض من قبل الخرطوم هو 32 دولاراً للبرميل. ويذكر جنوب السودان إنه يدفع بالفعل كل هذه الرسوم على أساس تجاري إلى شركة النيل الكبرى (7.40 دولار للبرميل) وبترودار (5.50 دولار للبرميل) وهما اتحادا الشركات المالكين والمشغلين لخطي الأنابيب وفقا للاتفاقات المؤقتة. وتمتلك بترودار الخط الشرقي بالكامل بينما تمتلك الخرطوم حصة 70% من شركة النيل الكبرى بينما يملك الشركاء في الكونسورتيوم الحصة المتبقية. لكن الحكومة السودانية تقول إن لها حق السيطرة الكامل على المنشآت النفطية الواقعة في أراضيها ولذا فإن لها الحق في فرض الرسوم التي تقررها على أي طرف ثالث يستخدمها مثل جنوب السودان. 
من جانبه اقترح الاتحاد الأفريقي الذي يتوسط في المحادثات في أديس أبابا رسوم عبور قدرها ثلاثة دولارات للبرميل معدلة لأخذ التضخم في الاعتبار. واقترح أيضاً أن تدفع جوبا للخرطوم 2.7 مليار إلى 5.4 مليار دولار خلال أربع سنوات للمساعدة في سد العجز لدى السودان على أن يغطي مانحون لم يسمهم من المجتمع الدولي وحكومة السودان المبلغ المتبقي من العجز. ونصح الاتحاد الأفريقي جنوب السودان أيضاً ببيع السودان 35 ألف برميل يومياً من مزيج النيل بسعر السوق. وقبلت الخرطوم المقترحات وربطتها بتحويل نقدي مباشر قيمته 5.4 مليار دولار من جوبا وعودة حصتها المشاركة وأصول سودابت شركة النفط الحكومية السودانية. وعند استقلال الجنوب اتفقت الحكومتان على حصول كل بلد على الموارد النفطية الواقعة في أراضيه. لكن الخرطوم تقول إن سودابت أصل مالي يجب أن يحتفظ به السودان وتعتقد أنه لم يكن من حق جوبا السيطرة على حصص الخرطوم في اتحادات الشركات العاملة في الجنوب. وقبلت جوبا مقترحات الاتحاد الأفريقي وعرضت شريحة قدرها 2.6 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات شريطة أن يدفع السودان ثمن النفط الذي صادره ويتحمل غرامات التأخير لشركات الشحن ويتراجع عن رسوم النقل والمعالجة التي يطالب بها. وفي السابق عرضت جوبا شطب 2.8 مليار دولار من 5.8 مليار دولار تصفها بأنها متأخرات مستحقة على الخرطوم تتعلق بالنفط وتقسيم السودان أعقاب تحسن كبير للأجواء بين البلدين عبر كبير مفاوضي الجنوب باقان أموم عن آماله في التوصل لاتفاق شامل بشأن النفط والموضوعات العالقة الأخرى خلال شهر أو اثنين لكن من المرجح أن يتأخر الجدول بسبب أحداث العنف في الآونة الأخيرة.

أبرز شركات النفط العاملة في البلدين:
أبرز شركات النفط العاملة في البلدين صينية وماليزية وهندية. ويحجم معظم المستثمرون الغربيون بسبب تاريخ طويل من الصراع وعقوبات تجارية أميركية على السودان. وكانت شركة بترودار تضخ معظم إنتاج جنوب السودان من النفط قبل إيقافه. والمساهمان الرئيسيان في الشركة هما مؤسسة البترول الوطنية الصينية (سي.إن.بي.سي) وبتروناس الماليزية. وتنشط الشركة في ولاية أعالي النيل بجنوب السودان. وأنتجت شركة النيل الكبرى للبترول التي تشغل مناطق امتياز في ولاية الوحدة بجنوب السودان معظم الكمية الباقية. وتقود سي.إن.بي.سي أيضاً هذا التحالف مع بتروناس وشركة أو.إن.جي.سي فيدش الهندية. والكونسورتيوم الآخر العامل في جنوب السودان هو شركة النيل الأبيض للبترول وهي شركة لتشغيل امتيازات النفط مملوكة مناصفة لبتروناس وسودابت الحكومية السودانية وذلك وفقاً للموقع الالكتروني للكونسورتيوم. ومن بين الشركات الأخرى توتال الفرنسية والتي تشغل منطقة امتياز مساحتها نحو 120 ألف كيلومتر مربع معظمها في ولاية جونجلي بجنوب السودان. وكانت الشركة قد أوقفت أعمال التنقيب في 1985 بعد تفاقم الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب لكنها تقول إنها ستستأنفها قريباً. وكانت يونيبك الذراع التجارية لشركة التكرير الصينية الكبرى سينوبك تدير معظم إنتاج جنوب السودان من النفط قبل وقف الضخ. وقال مسئول بجنوب السودان في نوفمبر الماضي إن الشركة الصينية تشتري أكثر من 80% من نفط جنوب السودان. واشترت الصين نحو 21.99 مليون برميل من الدولتين العام الماضي وهو ما يبلغ نحو خمس واردات الدولة الآسيوية من الخام. ووجه السودان إنتاجه منذ يوليو لتلبية الاستهلاك المحلي.

عروض نفطية جديدة:
رغم التوترات الراهنة، والتي أثرت على جهود تنمية الموارد النفطية على الصعيد الاقتصادي في دولتي شمال وجنوب السودان، تلقت الخرطوم عشرة عروض للتنقيب في امتيازات جديدة للنفط والغاز، وتريد التوسع في التنقيب عن الغاز لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء. وكان نحو 60 شركة من الصين ودول آسيوية أخرى ومن أوروبا والأميركيتين مثل البرازيل أبدت اهتمامها، بل إن عشر شركات منها تقدمت بعروض للتنقيب في الشمال. كما تجرى جولة تراخيص الامتيازات الستة المعلنة في السابق جيداً، ومعظم الشركات العاملة في السودان صينية وماليزية. وينتج السودان 115 ألف برميل من النفط يومياً، ويريد تعزيز إنتاج الغاز لتلبية الطلب المحلي المتزايد على الكهرباء وغاز الطهي بدءاً من جنوب كردفان الولاية الرئيسة المنتجة للنفط. وسيبدأ تشغيل محطة كهرباء بطاقة 400 ميجاوات في الفولة بجنوب كردفان بحلول عام 2013. ولا تركز الشركات العاملة في السودان على الغاز في الوقت الراهن، لكن الخرطوم تريد عمل بعض الترتيبات لزيادة تركيزها على هذا القطاع المهم. واستبعد وزير النفط السوداني عوض أحمد الجاز أن تحول المعارك التي دارت مؤخراً في المنطقة الحدودية بين شمال وجنوب السودان، حيث توجد حقول إنتاج النفط، دون قيام استثمارات نفطية جديدة في المنطقة. لكن القتال في هجليج ودق طبول الحرب يثير علامات استفهام حول استمرار هذه الاستثمارات.
كما وقعت دولة جنوب السودان اتفاقاً مع إثيوبيا لبناء خط أنابيب لنقل نفطها إلى ميناء جيبوتي، وذلك في سياق سعي جوبا لإيجاد خطوط نقل بديلة عن أنابيب السودان بعد تردي العلاقات بين الدولتين على خلفية النزاع حول رسوم نقل نفط الجنوب، ووقف جوبا إنتاج نفطها بعد اتهامها للخرطوم بسرقة نفطها. وأعلن وزير الإعلام في جنوب السودان برنابا ماريال بنجامين إن ملكية خط الأنابيب المتفق عليه ستؤول لبلاده، وقد تم التوقيع على مذكرة تفاهم بهذا الخصوص خلال مباحثات في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بداية الشهر الجاري. وتهتم شركات صينية وأميركية وأوروبية بإجراء دراسات الجدوى الاقتصادية الضرورية لبناء خط الأنابيب المذكور. ويقدر خبراء بقطاع النفط أن يتطلب بناء أنبوب نفط جديد ثلاث سنوات على الأقل، وبأن تكون كلفته كبيرة. كما وقعت جوبا اتفاقاً سابقاً الشهر الماضي مع كينيا لبناء خط أنابيب يحمل نفط الجنوب إلى الموانيء الكينية. وسيعبر خط الأنابيب الذي سيربط حقول نفط الجنوب بميناء جيبوتي في خليج عدن مسافة ألف كيلومتر تتخللها مناطق تنشط فيها قوات قبلية مسلحة، إلا أن هذا البديل سيحرر جوبا من التبعية الاضطرارية لخط أنابيب السودان لنقل وتصدير نفطها. وقال رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير ميارديت إن نفط بلاده لن يضخ من جديد إلا مع اكتمال خطوط النقل الجديدة التي وقع الاتفاق حولها مع كينيا. والسؤال المشروع هنا هو كيف ستلبي جوبا هذا الفاقد من الايرادات؟ وأضاف سلفا كير أن حكومته اكتشفت حقائق بعد وقف إنتاج نفطها كانت تجهلها خلال الفترة الانتقالية قبل انفصال الجنوب عن السودان، ومنها أن هناك آباراً لم يتم إدراجها في حسابات إنتاج النفط، متهماً الرئيس البشير وشركات نفطية بسرقة نفط بلاده. ومن جانبه أكد البشير في معرض احتفالية باستعادة منطقة هجليج، الرفض القاطع لنقل النفط الجنوبي عبر أنابيب الشمال بأي ثمن كان. ويمكن إثارة نفس السؤال هنا، وهو كيف ستلبي الخرطوم هذا الفاقد من الإيرادات؟ ان قرار وقف الضخ ورفض العبور سيكون له تداعياته السلبية على مواطني البلدين، وعلى القيادة عدم التشنج والتفكير الجدي في ذلك.

دور القوى الخارجية في الصراع (التحدي الصيني للغرب):
تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الانفلات والوضع المأزوم في السودان تتوازى وتتقاطع معه مصالح دولية تدفع في اتجاه إنهاك الطرفيْن الشمالي والجنوبي سعياً وراء الموارد الطبيعية والإمكانات الهائلة للزراعة في الجنوب، خصوصاً للوقود الحيوي من جانب الشركات الأميركية، حيث كشفت صحيفة التايمز اللندنية وجود صفقة سريّة بِيع بموجبها ما يقارب 9% من أراضي الدولة حديثة الولادة بسعر 4 سنت لكلّ كيلومتر مربّع.
وكانت الولايات المتحدة قدمت لحكومة جنوب السودان على امتداد السنوات الماضية صفقات سرية من الأسلحة، ودعماً تجاوز 6 مليارات دولار. ويدخل هذا الدعم الأميركي القوي لجنوب السودان، في ظل اشتداد الصراع التنافسي بين الولايات المتحدة والصين على السيطرة على نفط السودان، المتمركز بصورة أساسية في الجنوب، لاسيما أن الصين أصبحت لها استثمارات كبيرة في المجال النفطي في السودان.
ويشكل الخلاف بين الحكومة السودانية ودولة الجنوب الوليدة حول رسوم عبور النفط، أكبر تحد يواجه الصين بعد انقسام السودان إلى دولتين في التاسع من يوليو الماضي، وقد يدفع بكين نحو حقل ألغام سياسي، تخشى فيه الدخول في المستنقع السوداني للدفاع عن مصالحها الاقتصادية وحماية استثماراتها النفطية، التي تقع في دولة السودان الجنوبي التي تفتقر إلى منفذ بحري، وهي لا تستطيع تسويقه إلا عبر خط أنابيب النفط الذي يمر شمالاً إلى حيث الميناء الذي شيدته الصين ومولته على البحر الأحمر. والتحدي السوداني يمثل اختبار عملي لمعالجة مشاكل أخرى في بعض الدول الأفريقية تتشابه مع الحالة السودانية. 
فقد لقي توسع الشركات النفطية الصينية في أفريقيا، اهتماماً وقلقاً كبيرين في أوساط متخذي القرار الأميركي، وذلك من منطلق أن هذا التوسع خصم للوجود الأميركي والأوروبي في القارة الأفريقية، خصوصاً وأن عدد الشركات الصينية في إفريقيا يصل إلى نحو 674 شركة حكومية. وتؤكد الفرضية التقليدية للوجود الصيني في أفريقيا جزئيتين، أولاهما: الوصول والسيطرة الصينية على النفط الأفريقي بالارتكاز على استراتيجية موسعة مدعومة من قبل بكين، تبرر بأن هدف توسع شركاتها هو النفط لا غير، بينما تذهب الجزئية الثانية والتي يؤكد عليها الأميركيون بأن التوسع الصيني النفطي في أفريقيا يهدف إلى أبعد من اكتفاء السوق الصيني من النفط، ويقوض الاستثمارات الأميركية والأوروبية في أفريقيا. يُذكر أن الصين تحصل على ثلث احتياجاتها من النفط الخام من القارة الأفريقية، واستثمرت مليارات الدولارات في السنوات الخمس عشرة الماضية لضخ النفط الخام إلى أسواقها، بغرض سد احتياجاتها المحلية ومنها السودان. ومن ملفات الصراع الدولي الحالي على الموارد الطبيعية في أفريقيا ملف الطاقة، حيث يمثل هذا الملف أهم محاور التنافس بين الولايات المتحدة والصين، وتظهر ملامحه بوضوح في السودان، خاصة أن أميركا تعتبر أكبر مستهلكي ومستوردي النفط في العالم، وتمدها أفريقيا بنحو 25%. ويعتبر السودان من بين الدول الأفريقية التي ينظر الغربيون بقلق لعلاقتها التجارية مع الصين، لاسيما في مجال النفط، حيث يحظى السودان بنسبة 7% من إجمالي الـ25% المشار إليها للنفط الأفريقي المصدر للسوق الصيني، الذي يعتبر ثاني مستهلك للنفط بعد الولايات المتحدة، وتبلغ حصة المؤسسة الوطنية الصينية للبترول 40% في شركة النيل الكبرى للبترول السودانية، التي تسيطر على حقول النفط باستثمارات بلغت 3 مليارات دولار منذ 1999. والجدير بالذكر أن السودان فقد حوالي ثلاثة أرباع إنتاجه النفطي البالغ 500 ألف برميل يومياً عقب انفصال الجنوب، وتظهر احصائيات الجمارك الصينية، أن بكين استوردت 92 مليون برميل نفط خام من السودان عام 2010، أي ما يمثل نحو 5% من احتياجاتها. وفي دراسة جدوى أجراها تاليمان دارلي للمعهد العالمي الألماني تحت عنوان (السودان، أنجولا والصين: المستقبل الجيوبوليتيكي)، أشار تاليمان إلى أن انسحاب الشركات الأميركية والغربية النفطية من السودان، ترك الملعب النفطي الأفريقي متاحاً للصين، التي بدأت بعد نيل امتيازات الأعمال النفطية من الأنظمة الحاكمة اتباع أسلوب الشركات الغربية في المسؤولية الاجتماعية للشركات، لكسب ود المجموعات السكانية الأفريقية لتعزيز قبولها لدى هذه المجموعات، وذلك من خلال إنشاء المستشفيات، وملاعب كرة القدم، وكذلك الأنشطة الخيرية، لكنه ذهب إلى أن هذه الجهود مدفوعة الأجر للاستحواذ على المزيد من الموارد النفطية في الأقطار الأفريقية، وأن الاستراتيجية الصينية التي تمر عبر العلاقات التجارية مع أفريقيا تهدف إلى تأسيس بعد صيني عالمي مؤثر في مسار السياسة والاقتصاد العالميين، وقد بدأ هذا التأثير واضحاً عندما تمكنت الصين مع شركائها الأفارقة في كسب قضية تايوان في الأمم المتحدة قبل عامين. ويشكل دخول شركة شل العالمية في مفاوضات مع سلطات جنوب السودان، لمنحها حق امتياز تنقيب وبناء أنبوب نفط إلى إقليم قامبيلا الإثيوبي، والعرض الذي تقدمت به شركة توتال الفرنسية للحكومة الأوغندية لبناء أنبوب نفط يصل إلى السواحل الكينية، ليشمل نقل نفط جنوب السودان، أكبر التحديات التي تهدد احتكار اللاعب الصيني النفط السوداني وجيرانه من بعض الدول الأفريقية. الأمر الذي جعل صانع القرار في بكين يضع ثقله السياسي والدبلوماسي لحلحة الخلافات النفطية بين الخرطوم وجوبا، وتسوية ملف الحدود، ومنها منطقة أبيي النفطية. فقد دفعت مخاوف بكين من (السيناريو الأسوأ) بتعطيل انسياب صادرات النفط، الى إرسال مبعوثها الخاص بالشؤون الأفريقية كيو نجويجين إلى الخرطوم وجوبا، لتسوية خلافاتهما بشأن رسوم عبور النفط ومحاولة تلبية طلب الحكومة السودانية في الشمال والمتمثل في 32.2 دولار مقابل كل برميل نفط يمر عبر أراضيها، من خلال أنبوب النفط الذي تتقاسمه الصين مع وجود خبراء وفنيين في مواقع النفط بدولة الجنوب. إذاً المشهد المستقبلي للصراع الدولي على الموارد الأفريقية يشير إلى أن التنافس الأميركي ـ الصيني سيكون هو التنافس الأصعب والأكثر شراسة وقوة ومرارة، لأنه ينطوي على عنصر النفط، الذي يشكل أهم الأوليات الاستراتيجية لكل من الولايات المتحدة والصين.

كارثة إنسانية حقيقية على الجانبين:
تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن هناك نحو 4.3 مليون مواطن، أو نحو 14% من سكان السودان، في حاجة ماسة للمساعدات الإنسانية الفورية. وفي الجنوب، هناك نحو 21% من السكان (أو 1.7 مليون نسمة) يتعرضون لمخاطر جمة. وبالإضافة إلى التحدي الهائل الذي يفرضه ذلك العنف، يعاني جنوب السودان أيضاً من تلبية احتياجات ما يقدر بنحو 190 ألفاً من اللاجئين من أبيي، وولاية النيل الأزرق، وجنوب كردفان، بالإضافة إلى التحديات التي يفرضها ما يزيد على 300 ألف من العائدين (مواطنون من السودان الجنوبي كانوا مقيمين في الشمال)، والذين لا توجد سوى صلة سطحية بين العديد منهم ببلدهم "الجديد". وكانت الخرطوم قد أعلنت مؤخراً أن هناك نحو 700 ألف مواطن من جنوب السودان يعيشون في الشمال ـ نحو 9% من سكان الجنوب الحاليين ـ وأنه سيتم اعتبارهم أجانب بدءاً من أبريل 2012. ومما لا شك فيه أن عودتهم جميعاً تمثل أزمة اجتماعية منقطعة النظير. ومن المحتمل أن تثير هذه الأضرار الجانبية للنزاع كارثة المجاعة الأكثر فداحة، ففي الشمال، أسفر النزوح والنزاع عن تناقص في المحاصيل الزراعية بنسبة 40% في ولاية النيل الأزرق، ونحو 50% في جنوب كردفان، مما يترك نحو نصف مليون نسمة معرضين لانعدام الأمن الغذائي. كما أن الأمطار الغزيرة والنزوح والنزاع المستمر، ونحو 25% انخفاضاً في محاصيل الحبوب، بالإضافة إلى انتشار فيروس خطير يصيب المواشي، يعني أن هناك نحو ثلاثة ملايين من مواطني السودان الجنوبي سوف يحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة خلال هذا العام. وبالفعل، أفادت الأمم المتحدة بأن هناك زيادة هائلة في حالات سوء التغذية والإصابة بالملاريا، وأن هناك نحو مليون مواطن يعانون من الانعدام الحاد للأمن الغذائي. ناهيك عن أن التضخم الغذائي في كلا البلدين هائل، حيث يتراوح بين 19% في الشمال، ونحو 65% في الجنوب، وسيؤثر بضراوة على حياة المواطن السوداني، ويلقي بالعديد من الأسر إلى هاوية الفقر. 
وفي ظل تلك الحاجة الماسة، ربما يتوقع المرء أن ينأى القادة بأنفسهم عن القتال، وأن يعطوا أولوية لحياة مواطنيهم المستضعفين. لكنهم بدلاً من ذلك، وفي منطقة رزحت وترزح تحت وطأة الحروب، والاختطاف، والنزوح، فإن تدمير المحاصيل والمساكن، والكراهية العميقة، وثقافة تحقيق نقطة على حساب الخصم، ما زالت تفاقم حالة عدم الاستقرار التي يعاني منها ملايين من الأشخاص الفقراء. لقد دفع التصريح الأخير الصادر من نظام جوبا، بوقف استخراج النفط كرد فعل على المزاعم بالسرقة من جانب الخرطوم، كلا البلدين إلى الحافة. وإذا كان السودان الجنوبي يحصل على نحو 98% من عائدات العملة الأجنبية من النفط، فإن ذلك يعزز آفاق الانتحار الاقتصادي. وأعلن ماريال أيو يول وكيل وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي في الجنوب، إن وقف إنتاج النفط سيدفع معدل التضخم للارتفاع كثيراً، إلا إذا وجدت السلطات بدائل تمويلية لدعم العملة المحلية. وأضاف المسئول الجنوبي أنه إذا فقدت بلاده 98% من إيراداتها التي تأتي من عائدات النفط، فإنها ستفتقر لأي احتياطي من الدولارات يمكنها من دعم العملة المحلية، وكبح جماح التضخم المرتفع أصلاً لدى الجنوب. 
وقد أخفقت باستمرار المفاوضات المستمرة لعقد صفقة حول عائدات النفط، ويقع اللوم في ذلك على كلا البلدين، حيث يبدو أن كليهما عازم على السير معاً نحو الحافة باندلاع القتال الأخير حول منطقة هجليج النفطية ودق طبول حرب شاملة. وبذلك، فان الجانبين يمكن أن يقضيان على حياة ما يقدر بنحو ستة ملايين سوداني في كارثة إنسانية يمكن تجنبها. إن تصدير الأزمات الداخلية بدلاً من حلها يزيد الجراح ولا يعالجها وهو محاولة للهروب من المشاكل بإيجاد مشاكل أكبر سيكون لها تداعايتها الخطيرة على مستوى معيشة المواطن السوداني العادي في البلدين. لقد شهد السودان عقوداً من الحروب التي لم تحقق له سوى الخراب والدمار وتقطيع الأوصال وتشريد الأسر. وقديماً قال الشاعر: 
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم *** وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثـوها تبعثوها ذميمة *** وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحـى بثفالها *** وتلقح كشـافا ثـم تنتج فتتئم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق