السبت، 30 يونيو 2012

أصبح الكل ذا ثقافة وعلم...


عندما تسأل أحدهم وهو لا يفقه في الطب وتقول له هل الدواء الفلاني مناسب للمرض الفلاني، سيجيبك وهل تراني طبيبا؟!
عندما تسأل أحدهم وهو لا يعرف عن الهندسة وتقول له كيف يتم حساب المساحة للشكل الفلاني، سيجيبك هل وجهي يقول لك أني مهندس مثلا؟!
وعندما تسأل أحدهم وهو لا يعرف عن الكيمياء وتقول له قد قمت بدمج عنصرين للحصول على عنصر ثالث ولكن تجربتي باءت بالفشل فما الخطأ الذي قمت به، سيجيبك وما يدريني لماذا لا تسأل كيميائيا؟
لكن عندما تسأل أحد العامة في الشارع عن مسألة فقهية سيخترع لك جوابا على البداهة وربما أتى لك بقياس يستحسنه عقله! بدلا من أن يقول لك وهل تراني عالما فقهيا أو دينيا؟
وعندما تسأل أحدهم عن تفسير آية معينة تراه يسرع بشرحها من خلال ما يفهمه من ظاهرها، بدلا من أن يقول وهل تراني خبيرا بالتفسير؟!
وهكذا فجأة يصبح عامة الناس علماء في الدين واللغة والإجتماع بل يعطونك محاضرات في علم النفس والإجتماع وربما لا يتورعون عن مناقشة فلسفات لا يعرفون إلا اسمها!!
هذه مشكلة نابعة من أن العلوم اللغوية والدينية يعتقد الكل أنه مؤهل للخوض فيها وإبداء رأيه لأنه يملك فهما لمفردات اللغة ويستطيع أن ينشيء ما يشاء من جمل، و لكن الخوض في العلوم الأخرى لا ينفع لأن المسرحية ستنتهي قبل أن تبدأ.
وهنا تكمن المشكلة في الثورة المعلوماتية إذ أنها ولدت لنا أشباه مثقفين كثر، هذه الظاهرة كانت منتشرة عند الإيرانيين وقد كانت النكات والكوميديا تؤلف بخصوص هذه الفئة من المجتمع، تلك الفئة التي تحاول جاهدة أن تلبس لباس الثقافة، وتتعلق بقشور المثقفين الظاهرية. فمن خصالهم المميزة حشو الكلام الأجنبي في اللغة الأم وتضمين أكبر قدر من المصطلحات الفلسفية واختيار ألبسة معينة والتغني بالأشعار الغربية والآهات الرومنسية.
هذه الصفات بدأت تظهر في مجتمعنا العربي. فالآن أصبح الكل لديه صفحة في تويتر أو فيسبوك يكرر فيها مقولات العظماء وربما يدس فيها شيئا من حكمه الخاصة! وفجأة أصبح الكل عاشقا للقراءة ويتباهى بصفحته في good reads وغيره من مواقع الكتب، وأصبح الكل لديه كندل أو آيباد محشور ببرامج قراءة الكتب ومئات الكتب المجانية التي تنتظر القراءة في طابور طويل.
الآن لتصبح مثقفا وتحظى بعشرات المتابعين يكفي أن تنشيء صفحة في تويتر وتعمل قص ولصق لمقولات المفكرين المتناثرة على صفحات الشبكة العنكبوتية وستحظى بمئات الريتويتات، الآن فقط يمكنك أن تصبح بطلا إعلاميا بل قوميا ومحبوبا للشباب والشابات فقط من خلال كتابة بعض مقالات عن التجربة الغربية أو التجربة اليابانية وأن تتباكى على وضعنا العربي البائس.
الآن فقط يمكنك أن تترجم بعض المقالات الأجنبية وسيتم نعتك بالمفكر وسيتم نشر مقالاتك في الصحف التي لا تتعب نفسها حتى بالبحث عن مصدر المقالة الأصلية وسيتم إدراج مقالك على أنه مقال أصلي وليس مترجما! (حدث ذات مرة أني قرأت مقالة (في صحيفة يقال أن لها وزنا ثقافيا وعلميا)  نشر على أنه أصلي بالرغم من كونه مترجم حرفيا و لكن المأساة لم تكن هنا بل كانت في حقيقة أن الموضوع من أصله كان مبنيا على حقائق مفبركة تم الكشف عنها في مصادر أجنبية اخرى ولكن يبدو أن لا أحد لديه القدرة أو الوقت للبحث عن مصدر المقالة واكتشاف الحقيقة).
الآن فقط يمكنك أن تختار موضوعا علميا وتترجم بعض الفقرات من الويكيبيديا وتطرحها على أنها دراسة وبحث علمي.
الآن فقط يمكنك أن تعيد نشر بعض الأشعار لفيكتور هيجو وأنت لا تعرف معناها وسيتم تدوير تدوينتك مع كم لا بأس به من اللايكات! وربما يعقب شخص ما قائلا: جميل، جميل جدا!
أشباه المثقفين إنتقائيين بطبيعة الحال، فمن هنا مقولة ومن هنا فكرة ومن هنا بيت شعر ومن هنا حكمة، والمحصلة؟ لا شيء مجرد ببغاء، ليت أن هؤلاء يدركون أن الثورة المعلوماتية التي جعلتك قادرا على تجميع شتات مقولات متناثرة عن موضوع ما، هي متوفرة لدينا أيضا فلا حاجة للتكرار السقيم والتظاهر بالإطلاع والموسوعية! لماذا لا نعي أن المعلومات شيء والمعرفة شيء آخر فضلا عن مرتبة الحكمة. لماذا لا نعي أن الإبداع والكشف يحتاج إلى سكون بقدر ما يحتاج إلى حركة، السكون جسر التلقي.
اللطيف أن العلماء سابقا كانوا يرون أهمية لإختيار الكتاب الجيد للقراءة، حتى قالوا من توقف عن القراءة وصرف سنة من عمره بحثا عن كتاب جيد لم يضع وقته. هذا يعني أن ليس كل قراءة مفيدة فما بالك بقراءة الإنترنت؟ هكذا حالنا نفرح بأننا نقضي ساعات طويلة على الإنترنت بين منتدى ومدونة وموقع نخدع أنفسنا بأننا نقرأ.
يقول العلامة آملي صاحب المؤلفات الكثيرة أنه رأى في المنام أنه ينبش في القمامة، ويواصل قائلا: فسرت الرؤيا أنها الساعات الطويلة التي قضيتها في قراءة كتب بعض المفكرين من الغرب تحصلت عليها من صديق!
واضح ان العلامة لا يريد أن يقول لا تقرأوا ولكن يقول تخيروا قبل أن تقرأوا. العمر قصير والعلم كثير. ولكن بدلا من أن نستغل العمر القصير بالبحث عن الكتب الجيدة والأساتذة الخبراء ونمنهج العملية التعليمية حتى في القراءة الحرة، نحاول إيجاد طرق مختصرة لإدعاء العلم والثقافة فمن قرأ قليلا في العلم الفلاني يتسرع بالكلام وإبداء آراءه و مرئياته ويسقط ويصحح كما يحلو له، و ما أكثر الخبراء الإجتماعيين في الإنترنت وما أكثر المدعيين...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق