السبت، 13 أكتوبر 2012

احذر نفسك أن تحبط عملك...


الإخلاص:
تبين لنا من كل ما تناقلناه من السنة المطهرة: أن مباني الإسلام الخمسة، كل واحد منها يكفر الذنوب والخطايا ويهدمها، وأن: لا إله إلا الله لا تبقي ذنباً، ولا يسبقها عمل، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، وأن الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار، وأن الحج المبرور يطهر صاحبه من الذنوب كيوم ولدته أمه، وأن الدعاء منه ما يعود برضا الله حتى يصيب العبد به الجنة مع قليل العمل. وسر ذلك كله الإخلاص، يعني إخلاص العمل لله وحده لا شريك له، لا لشيء آخر سواه، فإذا كان العمل غير مخلص لله لا يقبل، وبالتالي لا يؤثر في أي أثر، ولا يكفر أي ذنب ولا يوجب أي ثواب. ونظراً لكثرة دوران كلمة الإخلاص على الألسنة، فقد ادعاها بعض الناس، دون تحقيق ولا تدقيق في معناها. الإخلاص مقدم على النبوة والرسالة في قوله تعالى: "وَاذكُر فيِ الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيَّا" [مريم:51]، وذلك لشرف الإخلاص وفضله، وتقدم وجوده على وجودهما، وكونه سببا في الترشيح لمنصب الرسالة والنبوة. وحقيقة الإخلاص: تصفية العمل عن ملاحظة الخلق، وتحديد الإرادة بالعمل لله وحده دون شيء آخر سواه، وبهذا المعنى وحده تتحقق نجاة الإنسان من سوء الذنوب وسوء الدنيا بوجه عام، انظر إلى قوله تعالى: "كَذَلِكَ لِنَصرفَ عَنهُ السُّوءَ والفَحشَاءَ إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ" [يوسف:24]، فأنت ترى الإخلاص سبباً في صرف السوء والفحشاء عن يوسف عليه السلام، كما أنه سبب لاصطفاء المخلصين للنبوة والرسالة، وحب الله حسب درجات الإخلاص. فالإخلاص شرط عام في قبول جميع أنواع الطاعات، وكل عمل خلا منه فهو إلى الهلاك أقرب، ففي الحديث المرفوع: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه"، ولأهمية الإخلاص كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: "من خلصت نيته كفاه الله ما بينه وبين الناس"، وكتب سالم بن عبدالله بن عمر، إلى عمر بن عبدالعزيز: أعلم يا عمر أن عون الله للعبد بقدر نيته، فمن خلصت نيته، تم عون الله له، ومن نقصت نبتة نقص عنه من عون الله بقدر ذلك". ولهذا فليست العبرة بكثرة الأعمال، وكثرة الأدعية بقدر ما هي بالإخلاص فيها، ولو كانت قليلة، ولكننا بكثرة الأعمال نرجو ما نصدق فيه ونخلص ونتمرن فيه على الإخلاص حتى نأتيه بالاستعانة بالله واللجوء إليه ليعطينا مفتاحه ويوفقنا إليه. ولذلك قال النبي -صل الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل: "أخلص العمل يجزك منه القليل". ومراتب الإخلاص ثلاث:
الأولى: إخلاص الأنبياء والمرسلين والتابعين لهم بإحسان وهو العمل لله وحده دون ملاحظة أي غرض دنيوي ولا أخروي بل لمجرد الحب لله وطاعة أمره.
والثانية: العمل لله وحده ليمنح الله العامل المخلص حظاً أخروياً، مثل تكفير الذنوب، والظفر بالجنة.
والثالثة: العمل لله وحده رغبة في حظ دنيوي مباح، كتوسعة الرزق، ودفع المؤذيات.
وما سوى ذلك فهو رياء مذموم، وشرك محبط للأعمال. والرياء المحرم المحبط للعمل هو: العمل لطلب حظ دنيوي، وغلبة هذا الحظ على القلب أثناء العمل وبعده وقبله، وهو على مراتب:
أولها: أن يحسن العمل في الظاهر أمام الناس ليحظى بالثناء عند الناس، وبالاشتهار بالصلاح والتقوى.
والثانية: وهي أقبح من الأولى: أن ينشط في العمل أمام الناس، ويكسل إذا كان وحده.
والثالثة: وهي أقبح الكل: أن يجعل صورة الطاعة وسيلة لاكتساب أمر محرم، كأن يجود العمل في الظاهر لتساق إليه الودائع ثم يأخذها لنفسه، أو تقرباً من امرأة يحبها.
والرابعة: وهي أخف الجميع: أن يجود العمل لا لتحصيل غرض دنيوي، وإنما خوفاً من أن ينظر الناس إليه بعين الاحتقار، ولا يعدوه من الأخيار.وكله رياء، وقليل الرياء شرك، ولكنه درجات، وكل عمل خالطه الرياء، فلا ثواب له، لما ورد في الخبر: "من عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه برىء". 
فإذا عقد الإنسان نيته على العمل مخلصاً لله، ثم طرقه الرياء أثناء العمل فلذلك حالتان:
الأولى: أن يكون العمل مما يرتبط آخره بأوله، كالصلاة والصوم ونحوهما، وهذا إذا صحح الإنسان نيته في أوله، ثم طرقه الرياء، فلا شيء عليه إذا حاول دفع الرياء والتخلص منه قدر طاقته.
الثانية: أن يكون العمل مما تستقل أجزاؤه، كالقراءة والأذكار، بدأها مخلصا، ثم طرقه، فلا ثواب لما بعد طروق الرياء. وإذا عمل العمل مخلصاً كما يجب عليه،
وبعد الانتهاء منه أثنى الناس عليه فلا يضره، لحديث مسلم: "تلك عاجل بشرى المسلم". وقد يعمل الإنسان عملاً من أعمال البر خالصاً لله، ثم يبطله بعد زمان طويل، وهو لا يشعر، وذلك كالرجل يصنع الخير مع رجل آخر، يريد به الله وحده، ويمضى زمن طويل، ثم يقصد الرجل الذي صنع المعروف، صاحبه الذي صنع إليه المعروف في حاجة، فلا يقضيها له، فيذكر له أو للناس أو في نفسه نادماً: أنه صنع إليه معروفاً منذ كذا وكذا سنة، وفي هذه الحالة أفسد نيته الماضية، وأحبط عمله الذي مضى صحيحاً وهو لا يشعر. غير أنه ممكن يصيبه المن عليه والمن كبيرة من الكبائر. فإذا فعل أحدنا معروفاً لأخيه لا يمن عليه به ولو بعد حين. وكالعالم يريد بعمله وجه الله، فوجد الناس بعد زمن طويل، لا يعدونه بين المجيدين من العلماء فغضب، فأفسد بغضبه نيته، وأبطل إخلاصه وهو لا يشعر.
وعلى هذا وجب على المؤمن أن يراقب نفسه، وأن يحذر خداعها لئلا تحبط عمله، وأن يحافظ على نيته الصالحة قبل العمل، واثناء العمل، وبعد العمل إلى ما شاء الله من أيام حياته. أعاذنا الله واياكم من هذا وحفظ لنا نوايانا وأعمالنا وعلينا أن نجتهد بأن يكون كامل توجهنا لله لا نريد من الناس أو ثناءهم شيئاً.
أدخلنا الله فسيح جناته.
ويارب سلم سلم أن يحبط لنا عمل.

الخوف والرجاء:
أ قول بعون الله إن الذنوب يجب أن يقترن بها الخوف والتوبة، والأعمال الصالحة يجب أن يقترن بها الرجاء. ويخطىء كثير جداً من الناس، فيستعملون الرجاء في غير موضعه، إذ يرجون وهم مقيمون على الذنوب، ويقولون: إن الله واسع المغفرة، وهو الغفور الرحيم، وليس هذا رجاء، وإنما هو الغرة بالله، وفرق بين الغرة والرجاء. وقد ضرب مثلاً لهؤلاء المخطئين في استعمال الرجاء فقيل:
مثلهم كمثل سيد قال لعبده: إن فعلت ما أمرتك به أعطيتك ألف درهم وبيتاً تسكنه، وإن لم تفعل حبستك وضربتك ألف سوط، فلم يفعل العبد ما أمر به، وقال: إن سيدي يحبني وسيعطيني ما وعدني، وذهب إليه بهذا الأمل الكاذب، فضربه، وحبسه، ولم يعطه شيئاً. فالاستعمال الصحيح للرجاء هو الإقلاع عن الذنب، والبدء في ممارسة الأعمال الصالحة. وهنا يكون الرجاء الحق. أما الخوف فيجب أن يقترن بالخطأ واقتراف الذنوب، فربما أدى الخوف إلى التوبة، أما الرجاء مع الذنب فيؤدى إلى الغرة، ثم الانسلاخ من الدين. عفانا لله وأعاننا على التمسك بما يحب ويرضى.

فضيلة الرباط:
عن سلمان الفارسي أنه قال: من رابط يوماً في سبيل الله تعلى كان له كصيام شهر وقيامه. ومن قبض مرابطاً في سبيل الله تعالى أجير من فتنة القبر وأجري عليه عمله إلى يوم القيامة. وهذا الحديث وإن كان موقوفاُ على سلمان فهو كالمرفوع إلى رسول الله -صل الله عليه وسلم-، لأن مقادير أجزية الأعمال لا تعرف بالرأي بل طريق معرفتها التوقيف. وقد ذكر بعد هذا: عن مكحول أن سلمان الفارسي مر بشر حبيل بن السمط، وهو مرابط قلعة بأرض فارس، فقال: ألا أحدثك بحديث سمعته من رسول الله -صل الله عليه وسلم- يكون لك عوناً على منزلك هذا؟ قال : بلى .. قال: سمعت رسول الله -صل الله عليه وسلم- يقول: "لرباط يوم خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات وهو مرابط أجير من فتنة القبر ونمي له عمله كأحسن ما كان يعمل إلى يوم القيامة". فتبين بهذا أن من كان عنده حديث منهم فتارةً كان يرويه وتارةً كان يفتي به من غير أن يروي، فكل ذلك جائز والمرابطة المذكورة في الحديث عبارة عن المقام في ثغر العدو لإعزاز الدين، ودفع شر المشركين عن المسلمين. وأصل الكلمة من ربط الخيل. قال الله تعالى: "ومن رباط الخيل" [الأنفال:6]. فالمسلم يربط خيله حيث يسكن من الثغر ليرهب العدو به، وكذلك يفعل عدوه ولهذا سمي مرابطة، لأن ما كان على ميزان المفاعلة يجري بين اثنين غالباً، ومنه سمي الرباط رباطاً للموضع المبني في المفازة ليسكنه الناس ليأمن المارة بهم من شر اللصوص. وجعل رباط يوم في هذا الحديث كصيام شهر وقيامه. وقد روي بعد هذا أكثر من هذا القدر فإنه روي عن مكحول أن رجلاً أتى رسول الله -صل الله عليه وسلم- فقال: "إني وجدت غاراً في الجبل فأعجبني أن أتعبد فيه وأصلي حتى يأتيني قدري". فقال عليه السلام: "لمقام أحدكم في سبيل الله خير من صلاته ستين سنة في أهله". وهذا التفاوت إما بحسب التفاوت في الأمن والخوف من العدو، فكلما كان الخوف أكثر كان الثواب في المقام أكثر، أو بحسب تفاوت منفعة المسلم بمقامه، فإن اصل هذا الثواب لإعزاز الدين وتحصيل المنفعة للمسلمين بعمله، قال عليه السلام: "خير الناس من ينفع الناس"، أو بحسب تفاوت الأوقات في الفضيلة، وبيانه في حديث رواه مكحول عن أبي بن كعب أن رسول الله -صل الله عليه وسلم- قال: "لرباط يوم في سبيل الله صابراً محتسباً من وراء عورة المسلمين في شهر رمضان، أفضل عند الله تعالى من عبادة ألف سنة، صيام نهارها وقيام ليلها، ومن قتل مجاهداً ومات مرابطاً فحرام على الأرض أن تأكل لحمه ودمه، ولم يخرج من الدنيا حتى يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وحتى يرى مقعده من الجنة، وزوجته من الحور العين، وحتى يشفع في سبعين من أهل بيته، ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة". وفي قوله: "أجير من فتنة القبر"، دليل لأهل السنة والجماعة على أن عذاب القبر حق، فإن الفتنة هنا بمعنى العذاب. قال الله تعالى: "ذوقوا فتنتكم" [الذاريات:14]، وكقوله تعالى: "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات" [البروج:10]، أي عذبوا، وأصل الفتنة الاختبار، يقول الرجل: فتنت الذهب إذا أدخله النار ليختبره، ومنه قوله تعالى: "وهم لا يفتنون" [العنكبوت:2]، أي لا يبتلون، وقوله تعالى: "وفتناك فتوناً" [طه :40]، وقوله تعالى: "إن هي إلا فتنتك" [الأعراف:155]، بمعنى الابتلاء أيضاً، ومنه يقال: فتانا القبر لمنكر ونكير، فإنهما يختبران صاحب القبر بالسؤال عن إيمانه، وقيل معنى قوله: أجير من فتنة القبر أي من ضغطة القبر، فكل أحد يبتلى بهذا إلا من عصمه الله تعالى منه، على ما روي أنه لما سوي التراب على سعد بن معاذ -رضي الله عنه- تغير وجه رسول الله -صل الله عليه وسلم- فقال: الله أكبر، الله أكبر! فارتج البقيع بالتكبير، فقيل له في ذلك؛ فقال: "إنه ضغطه القبر ضغطة اختلفت منها أضلاعه، ثم فرج الله عنه، ولو نجا أحد من ضغطه القبر لنجا هذا العبد الصالح". ولكن في حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت رسول الله- صل الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: " تلك الضغطة للمؤمن بمنزلة الوالدة الشفيقة يشكو إليها ابنها البار بها الصداع، فتضع يدها على رأسه تغمزه، وهي للمنافق بمنزلة البيضة تحت الصخرة". اللهم أجرنا من أى عقاب وأجعلنا فى رباط، وانصر جندك فى جميع الأرض وجميع البقاع، واجعلهم شهداءك، وافتح أبواب نصرك لجندك وعبادك فى هذا اليوم الكريم وأطعمهم وأسقهم وآمن روعاتهم وثبتهم عند لقاء العدو، وكن عوناً للعزل منهم ولا تجعل كافر ولا ظالم يسلط عليهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق